الثلاثاء، 2 أبريل 2013

أوروبا من المصيبة الفاخرة إلى المصيبة السافرة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«المجتمع الحر الذي لا يستطيع مساعدة الفقراء، لا يمكن أن يحمي الأغنياء»
جون كيندي - رئيس الولايات المتحدة الراحل


كتب: محمد كركوتـــي


قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كان الاتحاد الأوروبي يعاني مصيبة اجتماعية - اقتصادية كبيرة، وصفتها في مقال لي نُشر قبل أربع سنوات بـ ''المصيبة الفاخرة''. مُلخصها، أن الحكومات الأوروبية تنفق أمولاً طائلة، لعلاج نسبة متصاعدة من سكانها من الأمراض الناجمة عن سوء التغذية. وهذا ''السوء'' لم يأت من قلة المواد الغذائية، أو صعوبة الوصول إليها، بل من فقدان الشهية! والمثير (وقتها)، أن الكلفة الناتجة عن سوء التغذية، تصل إلى ثلاثة أضعاف تكاليف مواجهة الأزمات الصحية الناجمة عن البدانة. وقد توصلت الجهات المختصة (آنذاك) إلى معدلات رسمية، من بينها أن ما بين 5 إلى 15 في المائة من مجموع سكان أوروبا، و40 في المائة من المرضى الذين يعالجون في المستشفيات، و60 في المائة من نزلاء دور العجزة، يعانون سوء التغذية (بإرادتهم) أو معرضون لذلك. ودول الاتحاد تخسر ما يقرب من 170 مليار يورو سنوياً في مواجهة هذه الأزمة.
المشهد تغير الآن.. تغير بصورة معاكسة متطرفة، إلى درجة تختلط أحياناً فيها الأمور، وتدفع لسؤال لا يدخل في حسبان أحد. هل أصبح مشهدا إفريقيا أم آسيويا أم أمريكيا لاتينيا؟! وربما يظهر متطرف ليطرح سؤاله الخاص، هل سنرى في أوروبا صورة طفل منتفخ البطن يستند إلى ساقين كأعواد الكبريت؟! وقد يلقي آخر سؤالاً أقل تطرفاً، هل المشهد الجديد، هو نتاج ظهور ما يمكن أن نطلق عليه ''الأثرياء المدينين''؟ أو ''الأثرياء السابقين''؟ أو ''الأثرياء الضائعين''؟ إلى آخر التوصيفات التي نزعت منها غرابة المشهد.
في أوروبا الآن، تقوم منظمة الصليب الأحمر الدولي، بتوزيع مواد غذائية على الفقراء فيها! لأنهم ببساطة غير قادرين على شراء حتى بعض الأساسيات المعيشية، بسبب تأثير الأزمة الاقتصادية في عدد من البلدان. وقد أدى ذلك، حسب المسؤولين في المنظمة الدولية، إلى انزلاق الكثير من الأسر في دوامة الفقر. هذه المساعدات دخلت التاريخ فوراً مرتين. الأولى: أنها تجري في القارة الأوروبية الغنية المانحة، والثانية: أن حجم هذه المساعدات، لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. أي أن أوروبا استرجعت أحداثا، من المفترض أنها انتهت مع نهاية تلك الحرب الكبرى مع مصائبها وخرابها. الحدث (بالفعل) كبير، ليس من ناحية طبيعته فقط، بل لأنه يشمل عشرين بلداً عضواً في الاتحاد الأوروبي.. لا الإفريقي ولا الآسيوي! ومن أهم الدلالات الخطيرة، أنه من بين المستفيدين من المساعدات الغذائية، أفراد ينتمون إلى الطبقة الوسطى، فقدوا وظائفهم في سياق المحنة الاقتصادية العامة في القارة. وطبقاً لإحصائية صادرة عن الصليب الأحمر، فإن أكثر من ثلاثة ملايين شخص في إسبانيا وحدها، يعتمدون على هذه المساعدات. وهؤلاء يفتقرون إلى المواد الغذائية الأساسية، بل حتى إلى الدعم المادي للسكن والفواتير المعروفة المرتبطة به!
وعندما يعاني سكان في 20 بلداً من أصل 27 بلدا (من بينها بلاد استمدت القارة نفسها تاريخها منها) من عدم القدرة على الوصول إلى المواد الغذائية، فإن القضية لم تعد هامشية، ويستدعي الأمر أن توضع على رأس جداول أعمال القمم الأوروبية نفسها. في بلد كاليونان، يتزايد عدد المواطنين فيها الذين يعجزون عن زيارة الأطباء، لأنهم ببساطة فقدوا بوالص التأمين الصحي! أي أن القضية لم تعد مرتبطة حتى بالعجز الغذائي للفرد فقط، بل بمصيره الصحي أيضاً. ولذلك لم يكن غريباً تعاظم حراك منظمات الإغاثة في قلب أوروبا. فالفقر يدهم بصورة مخيفة شرائح اجتماعية أوسع. دون أن ننسى أن دول أوروبا الشرقية، تبقى الأكثر في هذا المجال، ولا سيما أن معظم سكانها لا يملكون مدخرات، ولا حتى أنظمة تأمين صحي. ولأن المصيبة نالت حتى من الطبقة الوسطى، فعلينا أن نتخيل آثارها على المهاجرين واللاجئين في أوروبا.
في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، نشأت في أوروبا كلها حركات يمكن وصفها بـ ''القومية المحلية''. وهي نوع مخيف من انتماء- اعتقاد ينال من المصير الأوروبي لدول الاتحاد. وهذه الحركات كانت تعادي المهاجرين واللاجئين في زمن الازدهار، فكيف الحال الآن في زمن المحن الاقتصادية- المعيشية؟ خصوصاً إذا ما عرفنا، أن خطر الفقر انتشر (بالفعل) في نحو نصف مجموع بلدان الاتحاد الأوروبي، الأغلبية العظمى منها في شرق القارة. إنها أزمة في قلب أزمة، لكنها تحمل معها مخاطر جمة على صعيد الانتماء، خصوصاً في الدول الأقل معاناة منها. كما أنها تقوي التيار الانفصالي (في بعض البلدان الأوروبية) الذي يرى أن مصلحته الداخلية الخاصة، لا تقارن بمصلحة بلاده على الساحة الأوروبية. ورغم الخلل الواضح في هذه الرؤية، إلا أنها قابلة للازدهار والانتشار، في وقت ينشغل فيه الاتحاد الأوروبي، بحماية دول معرضة للانهيار الاقتصادي. فالبيئة اللازمة لـ ''القومية المحلية'' باتت متوافرة، ومخاطر هذه ''القومية'' لن تنحصر في زمن المحنة، بل ستنتقل إلى زمن ما بعدها.


هناك تعليق واحد:

  1. شكراً أخي على متابعتك. وأرجو أن تكون بخير دائم. حاولت معرفة هويتك، ولكني لم أنجح. تقبل المودة. محمد كركوتي

    ردحذف