الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

«رومانسية اقتصادية» لإعادة الأموال المنهوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أفضل السياسات هي النزاهة، خصوصًا عندما تكون هناك أموال في الأجواء»
مارك توين أديب وكاتب أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي
امتثل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إلى الضغوط السياسية والإعلامية التي تعرضت لها حكومته في الأسابيع الماضية (وتصاعدت بصورة كبيرة قبيل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة)، بسبب تقاعسها عن التعاطي مع الأموال المنهوبة من الشعوب في البلدان التي أُطيح بأنظمتها الفاسدة الناهبة، وفي مقدمتها مصر. وهذا لا يعني أن كاميرون، كان يريد الاحتفاظ بهذه الأموال المحورية بالنسبة للشعوب المنهوبة. فالرجل صادق في ردها، لكنه تمسك– كغيره من قادة الدول الغربية- بتلك القوانين التي تفرض قيودًا جامدة قاتلة لاسترداد الأموال، على الرغم من أن هذه القوانين هي في طبيعتها إجرائية أكثر من كونها تشريعية، وبالتالي يمكن إخضاعها لمعايير المرونة، التي تتطلبها حال شعوب منهوبة منكوبة محرومة مظلومة. ورغم المصاعب الاقتصادية التي تواجهها الدول الغربية الكبرى، بفعل أزمة فجرتها هي (لا غيرها)، إلا أنه يمكن لحكوماتها أن تتقدم بمساعدات مالية للشعوب المنهوبة، وتربطها (بصورة تقريبية) بما سيُعاد لها من أموالها. وهذا لن يكون هدرًا، ولا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، بل تلبية لمتطلبات مالية ملحة ومصيرية. والحكومات الغربية، كانت ستسجل (بذلك) نقطة إيجابية أخرى لصالحها، إلى جانب النقاط التي سجلتها في سياق وقوفها مع ثورات الشعوب، ولا سيما العربية منها.
هناك من سيصف هذا المطلب بـ ''الرومانسية'' التي لا تتفق مع القواعد الاقتصادية والمالية. وهذا صحيح. لكن عندما ''يكتشف'' نواب بريطانيون أن حكومتهم لا تزال تقدم مساعدات مالية سنوية، منذ عشرات السنين إلى الصين، دون أن تنتبه إلى فقدانها للمبرر، وأنها ماضية في تقديم هذه المساعدات لدول أخرى، مثل البرازيل وروسيا (بل ومؤسسات غير بريطانية) لا تحتاج إليها.. عندما ''يكتشفون'' ذلك، فإن شيئًا من ''رومانسية'' المطلب يزول حتمًا. وعندما يُصدَم الرأي العام البريطاني –مثلًا- من أن بلاده (ومعها الاتحاد الأوروبي)، تقدم 10 ملايين جنيه استرليني سنويًّا، كمساعدات للتكامل الاجتماعي للنساء في البرازيل، بينما تنفق هذه الأخيرة أكثر من تسعة مليارات دولار أمريكي على تهيئة البلاد للألعاب الأولمبية في (ريو) عام 2016.. فشيء آخر من ''الرومانسية'' يزول أيضًا. فكيف يمكن تقديم الأموال لاقتصادات صاعدة، باتت تنافس الدول نفسها المانحة للأموال؟!
وفي كل الأحوال، فعل كاميرون خيرًا، عندما تعهد بتشكيل مجموعة عمل للتعاون مع الحكومة المصرية، لجمع الأدلة وتعقب الحسابات المصرفية، وإطلاق القضايا القانونية الكفيلة بإعادة الأموال المنهوبة. وهو أراد أيضًا أن يزيل اتهام القاهرة لبريطانيا بأنها لم تبذل جهدًا كافيًا لإعادة هذه الأموال، ولأنها لم تقم بحركة سريعة لتجميد أرصدة أركان نظام حسني مبارك البائد، وذلك على عكس ما فعلته دول أوروبية أخرى. والأمر هنا ينبغي أن يُطبق أيضًا على أموال الشعوب العربية الأخرى.. التونسيون والليبيون واليمنيون والسوريون، وأن يدخل ضمن سياسة شاملة، على أن تكون السرعة من أولويات التنفيذ. اليوم في أوروبا، يستغرق البت في دعاوى قضائية تخص أموالًا منهوبة من الشعوب قرابة العشرين عامًا! وفي أحسن الأحوال تدوم عشر سنوات. لننظر إلى تلك القضايا المشابهة المرفوعة- على سبيل المثال- في سويسرا ضد حكام ومسؤولين أفارقة، أطاحت بهم شعوبهم.
في مقال سابق لي بعنوان ''لص قوي+ فرص مباحة=أموال منهوبة''، تناولت مشكلة القوانين الصارمة في بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الخاصة باستعادة الأموال المنهوبة. فإذا لم تُخفَّف هذه القوانين، فإن كل حراك– مهما كانت نوايا أصحابه صادقة- لن يوفر الحد الأدنى المطلوب، للوصول إلى نهايات سريعة وفعالة وحاسمة لهذه القضية الملحة. فالقوانين– أيًّا كانت- ليست شرائع مقدسة، ويجب ربط النوايا بحجم ونوعية وجودة تخفيفها. ولمزيد من التأكيد على حسن نوايا رئيس الوزراء البريطاني، فقد قرر الإفراج عن 100 مليون دولار أمريكي من الأموال التي نهبها مبارك وأعوانه، وأودعوها في المملكة المتحدة. مما يؤكد أنه لا توجد مصاعب إجرائية أو قانونية أو سياسية أو تشريعية أو قضائية، بهذا الخصوص. تمامًا، مثلما لا توجد مصاعب أو مشاكل تذكر في تحديد وحصر غالبية الأموال المنهوبة وأماكن ''تخزينها''. ولأن الأمر كذلك، يمكن استعارة ''رومانسية اقتصادية'' ما، بربط مساعدات مالية غربية للشعوب التي أطاحت بأنظمتها الوحشية، بما سيُعاد لها من أموالها المنهوبة.
الثورات لا تستكمل أدواتها، إلا بحراك ثوري متوازن ومتعقل، يكون متواترًا مع سرعة أدائها. وقضية الأموال المنهوبة، تتطلب ''ثورية غربية'' في التعاطي معها. وليس صعبًا أن تُسن قوانين جديدة فاعلة و''سريعة المفعول''، تُسهل عملية إعادة الأموال المنهوبة، إذا ما رفضت بعض الحكومات الغربية، القفز على القوانين المعمول بها منذ عقود، أو وجدت صعوبة قانونية في تخفيفها. وبذلك تدخل هذه الحكومات التاريخ، كجهات وقفت مع حقوق الشعوب نظريًّا وعمليًّا. كما أن إعادة الأموال لمستحقيها، يخفف في حد ذاته، الأعباء عن كاهل الحكومات التي ترغب في تقديم المساعدات الاقتصادية لدول ''الربيع العربي''، التي جردها حكامها المُطاح بهم، حتى من مستقبلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق