السبت، 27 أكتوبر 2012

«اقتصاد» الجريمة المنظمة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''الجريمة المنظمة، تجارة حرة في أوج حريتها''
هانك ميسيك كاتب ومؤلف

كتب: محمد كركوتـــي
الناتج المالي المخيف للجريمة المنظمة ليس صادماً. الذي يصدم أن الحرب على الجريمة المنظمة ليست منظمة بما يوازيها. ورغم تحقيق بعض الانتصارات في هذه الحرب (بسبب التشدد المالي الذي فرضه خراب الأزمة الاقتصادية العالمية)، إلا أن عوائد هذه الجريمة التي تُرتكب (بحق) ضد الإنسانية، لم تتراجع إلى ما هو مطلوب اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً وحضارياً. فلا يزال حجم ''اقتصادها'' يتساوى مع ما بين حجم اقتصادي كل من إندونيسيا وأستراليا. فقد تفوق في حده الأدنى على اقتصادات كل من هولندا وتركيا وسويسرا، في حين زاد في حده الأقصى على اقتصادات كل من إسبانيا والمكسيك وكوريا الجنوبية! ببساطة يتأرجح حجم هذا الاقتصاد المشين ما بين 870 إلى 1500 مليار دولار سنوياً! وهذه القيمة الهائلة، هي في الواقع حجم ''تجارة'' تبييض الأموال أيضاً، التي قدرها صندوق النقد الدولي، ما بين 950 و1500 مليار دولار. ولأنها ''تجارة'' سرية مفضوحة! من حق أي مراقب أن يعتقد أن حجمها أعلى من ذلك. لأن بعض الدول والجهات المعنية، تسعى إلى خفض ما أمكن من تقديراتها للجريمة المنظمة، هرباً من الضغوط المتعاظمة عليها في مسألة الحرب ضدها.
وفي كل الأحوال لو اعتمدنا الحد الأدنى الذي قدره مكتب مكافحة المخدرات والجريمة التابع للأمم المتحدة، وهو 870 مليار دولار، فإن الكارثة لا تخف، والمصيبة لا ''تتلطف''، والهموم والأضرار الناجمة عنها لا تتراجع. لا نتحدث هنا عن الأموال المنهوبة من الشعوب، في بلدان قرر حكامها امتلاكها. فلو أُضيفت، لدخل ''اقتصاد الجريمة المنظمة الشامل'' في قائمة الدول السبع الكبرى، ولتفوق على اقتصادات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. ضمن التقدير الدولي الأخير، هناك ما لا يقل عن 320 مليار دولار عوائد مضمونة من تجارة المخدرات. وهذه وحدها تحمل مصائبها الاجتماعية معها، بصورة كارثية. ولكن لا توجد مصيبة واحدة يتعرض لها المجرمون، لماذا؟ لأن هناك دائماً ''مصابغ'' لا تنتهي لتبييض أموال الجريمة، والأهم من هذا أنها ''مصابغ'' تشغلها مصارف ''قيادية'' ضخمة في عالم المال. مصارف تتردد أسماؤها حول العالم باحترام وتقدير و''وجل''، من قوتها وتاريخها ومكانتها التمويلية، حتى بعد أن ضربتها الأزمة الاقتصادية العالمية، في سياق ما ضربته حول العالم. مهلاً، ألم يثبت بعد انفجار الأزمة أن عدداً كبيراً من المصارف الكبرى، نجت (أو سندت نفسها) في الواقع بأموال الجريمة المنظمة؟! وأنقل هنا حرفياً ما كشفه رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة قبل عامين تقريباً:'' إن أموال المخدرات حافظت على بقاء النظام المالي قائماً إبان ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية''! وقال أيضاً: ''إن عائدات الجريمة المُنظمَة شكلت السيولة الاستثمارية الوحيدة المتاحة لبعض المصارف، التي كانت على حافة الانهيار في عام 2008 والعام الذي تلاه''! بمعنى آخر، أن الأموال القذرة يتم استيعابها في النظام الاقتصادي العالمي!
ولعل من المفيد، استعراض ''القطاعات'' التي تندرج ضمن ''اقتصاد الجريمة المنظمة''، التي اتفق عليها الخبراء المقاومون لها: المخدرات، الإتجار بالبشر، الدعارة، التهرب من الرسوم والضرائب، الرشوة، العمولات الخفية، التربح من الوظيفة، السرقة، الاختلاس والابتزاز، الغش التجاري، الإتجار بالسلع الفاسدة والمحرمة، التزوير في الأوراق النقدية والمستندات والوثائق والعلامات التجارية، المقامرة في أسواق المال والسلع، المعاملات الوهمية. وإذا أضفنا إليها، عمليات نهب مقدرات الشعوب، بما في ذلك بيع السندات المكبِلة، وإقامة مشروعات وهمية، وفي أحسن الأحوال غير إنتاجية، فإننا أمام ''اقتصاد عابر للقارات''، يتكرس متى؟ مع حلول السنة العاشرة (أول العام المقبل) لدخول اتفاقية الأمم المتحدة حول الجريمة المنظمة حيز التنفيذ. وهذا يعني، أن الاتفاقية المذكورة لم تقدم شيئاً يذكر على صعيد الحد من مآسي هذه الجريمة العالمية، رغم النوايا الحسنة التي تُطلق هنا وهناك، في المناسبات وغيرها.
تعترف النائبة العامة الأمريكية السابقة جانيت رينو بأن الجريمة المنظمة (ومعها تبييض الأموال)، هي في الواقع جريمة معقدة، يحتاج العالم إلى آليات معقدة في الحرب عليها. لكن الدول الكبرى التي يفترض أنها تقود هذه الحرب، لم تتوصل بعد إلى هذه الآليات. ومهما بلغت قوة هذه الدول، لا يمكنها أن تحقق الانتصارات المطلوبة من دون تعاون دولي شامل ومُحكم. فقد وصف يوري فيدوتوف المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، بأن المسؤولين عن هذه الجريمة ''أذكياء ومطلعون بشكل جيد وانتهازيون''. وفي الواقع إنهم مجرمون، لا يمكن مقاومتهم، إلا باتباع مفاتيح ذهنيتهم الإجرامية. ومن دون ذلك، ومن غير آليات متطورة، لن يكون غريباً أن يصل ''اقتصاد الجريمة المنظمة''، في مرحلة لاحقة إلى محرك أساسي للاقتصاد العالمي.
إن هذه الجريمة تعبر القارات وحدود الأوطان بسرعات عالية. والأضرار التي تتركها وراءها، تكلف كثيراً. وكلما استحكمت، وقف المجرمون يضحكون على أولئك الذين يحاربونهم بأدوات صدئة. هذه الجريمة تحتاج إلى ''نووي اقتصادي'' للقضاء عليها. إنها الجريمة الوحيدة التي لا تنفع مع مرتكبيها المحاكم التقليدية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق