الأحد، 14 أكتوبر 2012

الأودات+ البدائل= عالم لا متناهي من المادة الإعلامية

(المقال خاص بمجلة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج)




كتب: محمد كركوتي


دخلت القنوات التلفزيونية في العالم مرحلة الخطر منذ أكثر من عقد من الزمن. الخطر الذي يهدد نسبة مشاهديها، بل ومصيرها. وهو خطر يجبر القائمين على هذه القنوات، ليس فقط على إعادة صياغة الاستراتيجية الإعلانية لمؤسساتهم، وتلك المرتبطة بحجم الإنفاق، بل أيضاً، على وضع خطط جديدة، تخص المحتوى والشكل، بصورة تتناغم من المزاج المتجدد (بل والمتغير) للمشاهد، من فرط تعدد الخيارات الإعلامية أمامه، وتوافرها بسهولة وبتكاليف مالية، لا تتوقف عن التراجع. هذه المزايا، تجعله قادراً شيئاً فشيئاً على الخروج من نمطية تلقيه للمادة الإعلامية والترفيهية، بل وتدفع به إلى مستويات أعلى في اختيار نوعية، ما تعج به الساحة الإعلامية بشكل عام. فثقافة الاختيار باتت أرقى بكثير، مما كانت عليه قبل عشر سنوات على الأقل. وحرص المشاهد على برنامج تلفزيوني ما، أصبح اليوم أقل تماسكاً، خصوصاً في ظل تعدد تشابه البرامج المواد التلفزيونية الأخرى التي تعرض. يضاف إلى ذلك، تعدد البدائل أمام المشاهد في الموضوع نفسه، وفي القضية ذاتها، وفي الإنتاج عينه.
غالبية المتابعين للبرامج التلفزيونية اليوم، لم يعودوا يعتمدون عليها كوسيلة أساسية للحصول على المادة المطلوبة. ومن كان نجماً تلفزيونياً في يوم من الأيام، يتعاطى معه المشاهد كمقدم برامج (أو برنامج). وقد لعبت المواقع الالكترونية على مدى السنوات الماضية، دوراً أساسياً في "تغيير العلاقة" بين المشاهد والنجم التلفزيوني، ليس فقط لأنها تقدم الكثير من التفاصيل في سياق خدماتها، بل أيضاً لأنها تصنع النجوم هي نفسها، وتقدمهم بصورة أكثر عصرية ورشاقة وجاذبية، الأمر الذي انعكس بصورة سلبية (بل ومخيفة) على الشكل التقليدي لمقدم البرامج الذي يرابط على الشاشة، مع غياب التفاعل بينه وبين مشاهده. هذه النمطية، أحدثت عند عدد كبير من المشرفين على القنوات التلفزيونية في العالم (ولاسيما الغربي)، مخاوف كبيرة، تزداد حدة مع التراجع الإحصائي لعدد المشاهدين، الذي يصاحبه تراجعاً إعلانياً، يضع أي مؤسسة تلفزيونية (غير حكومية بالطبع) في دائرة الرعب. ناهيك عن أن هذه النمطية المخيفة، تستحوذ على القسم الأكبر من الإنفاق، ولاسيما لدى القنوات التي لا تزال تعتمد على المقدم (النجم) الأوحد، أو "النادر"، وتخصص له وقت الذروة. فمنذ سنوات، تحول "وقت الذروة" عند المشاهد والمتلقي، إلى أوقات ذروة، ليس فقط لتوفر الأدوات الموصلة للمادة الإعلامية، ولكن أيضاً لتعدد البدائل (النوعية)، بشكل يصعب حتى على أولئك الذين يملكون كامل وقتهم، المتابعة الكاملة. لقد أصبحت المعادلة على الشكل التالي: "الأودات+ البدائل= عالم لا متناهي من المادة الإعلامية". والذي لا يتعاطى مع هذه المعادلة، سيواجه مصاعب جمة في توفير مادة إعلامية مطلوبة، ستؤدي حتماً إلى مشاكل في الاستمرار.
بعض القنوات العريقة في الولايات المتحدة الأميركية، فهمت المعادلة المذكورة، وبدأت بالعمل على أساسها، بينما لا يزال بعضها الآخر هناك، وفي عدد من الدول الأوروبية (باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي")، يعاند الحقائق الإعلامية المتواترة والمندفعة إلى الساحة. فعلى سبيل المثال، أقدمت شبكة "إن بي سي" الأميركية الشهيرة، على "مجزرة وظائف"، في سياق العمل على تخفيض الإنفاق. وهذا يحدث في المؤسسات الكبرى والصغرى بين الحين والآخر، خصوصاً في ظل المصاعب المالية، التي أوجدتها الأزمة الاقتصادية العالمية منذ العام 2008. فآثام هذه الأزمة لم تترك جهة إلا وما نالت منها حول العالم. غير أن اللافت في تحرك الشبكة، أنها خفضت أجور مقدمي برامج شهيرة، تعتبر محورية للشبكة. وكان المسؤولون واضحين، عندما تحدثوا صراحة، بأن ذلك يهدف إلى توفير الأموال، لماذا؟ لتقديم محتوى متميز في سياق التنافس الهائل والمتصاعد، مع من؟ مع الإنترنت.
والحق، أن "بي بي سي" البريطانية، استدركت المشكلة أيضاً، وفهمت المعادلة، وقامت قبل عام تقريباً بالاستغناء عن عدد من أشهر مدرائها، وبعض نجومها الذين يتقاضون رواتب عالية للغاية. والهدف هو نفسه، توفير المال لإنتاج برامج وأفلام مثيرة وجاذبة وتنافسية. هذه الخطوة ستوفر للهيئة البريطانية المذكورة، ما يقرب من 600 مليون دولار أميركي، ستصب كلها في قطاع الإنتاج بكل مجالاته. لقد أسرع أشهر مقدمي البرامج في الولايات المتحدة جاي لينو، بقطع الطريق على إدارته، وعرض تخفيض راتبه السنوي، خوفاً من إقدامها في مرحلة لاحقة على إلغاء برنامجه "تونايت شو"، كما حدث مع المقدم الشهير أيضاً لاري كينج في شبكة "سي إن إن"، الذي "تقاعد" قبل عامين تقريباً. والذي زاد من خوف لينو، أن الشبكة خفضت ميزانية إنتاج برنامجه "الشعبي" من 2,3 إلى 1,7 مليون دولار أميركي.
وإذا كان الهدف الأساس من تقليص الوظائف وتخفيض رواتب المقدمين (النجوم)، هو توفير المال لإنتاج برامج أكثر جاذبية، فإن تخفيض كلفة إنتاج برنامج لينو، ليست سوى إشارة واضحة، على أن أيام برنامجه باتت معدودة. لماذ؟ لأن قواعد الاستراتيجية الإعلامية في العام تغيرت، بل تواصل التغير. وهذا ما توصل إليه جيم والتون الرئيس السابق لـ "سي إن إن"، الذي كان شجاعاً، عندما أعلن أن الوقت قد حان لإدارة جديدة للشبكة، تأخذ بعين الاعتبار الهجوم الهائل للإنترنت على قطاع الشبكات التلفزيونية. والحقيقة أن الأمر برمته يحتاج إلى فكر جديد، يطرح منظوراً إعلامياً مختلفاً تماماً، يمكنه أن يواجه الهجوم الكبير لما تقدمه الإنترنت. وأمام هذا "الفكر الجديد" مهمة كبيرة وصعبة. لأن الأمر لا يتعلق بالمواجهة، بقدر ارتباطه بالتماهي الإعلامي –إن جاز التعبير- مع الشبكة الدولية، التي تقدم حالياً خيارات وبدائل، تضع نمطية القنوات التلفزيونية كلها شيئاً فشيئاً على الهامش. فالنجومية الآن لم تعد لمقدم البرنامج، بل للمحتوى الذي يحاكي المتغيرات والأمزجة التي وصلت إلى مستويات عالية من النضوج، أو في أسوأ الأحوال، الأمزجة التي تكتسب بصور متلاحقة القدرة على التمييز بين "موضة" قديمة، وأخرى تصبح قديمة، حتى في يوم إطلاقها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق