الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

اقتصاد المحتل المختل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''الكلب الذي يتضور جوعا على بوابة صاحبه، يعني أن الخراب يعم خلف البوابة''
وليام بليك شاعر وفنان إنجليزي

كتب: محمد كركوتـــي
وجدت مصاعب في تقليل الاهتمام بالوضع الاقتصادي والمعيشي في سورية، في ظل حرب إبادة تدور فيها منذ أكثر من 18 شهرا، يشنها نظام لا شرعي محتل ومختل. نظام قَبِل أن يكون عدو أمة بأكملها، دون أن يتنبه، إلى أن الانتصارات لا تصنعها الأنظمة (حتى الشرعية منها)، بل الأمم التي تمنحها شرعيتها. فكيف الحال بنظام لم يحظ بشرعية وطنية يوما؟ ورغم أني تناولت سلسلة من الموضوعات التي تخص الاقتصاد ''السوري''، قبل الثورة الشعبية العارمة وبعدها. إلا أن ما يصدر عن أعوان نظام سفاح سورية بشار الأسد، لا يترك مجالا للتردد في التعاطي معه، حتى لو كان عبارة عن مجموعة من الأكاذيب والأوهام (بل والأحلام). فالكل يعلم، أن استراتيجية الأكاذيب هي في حد ذاتها سلاح آخر للأسد، في حرب الإبادة التي يشنها دون توقف. سلاح استورده من أنظمة وحشية مماثلة لوثت التاريخ الإنساني. انتهى معظمها، ودخل من تبقى منها في طور الانتهاء. ولأنه محتل مختل، فقد تصور أنه سينجو.
وإذا كانت الحقيقة تظهر في النهاية دون تنسيق أو تآمر. فمهما بلغت جودة التنسيق في الأكاذيب.. ستظهر حقيقتها، وستنال من أبطالها، وستُعَري مُطلقيها. هذا وائل الحلقي رئيس وزراء الأسد، ''يحسم'' الأمر، ويعلن من خلال تلفزيون الأسد (منبر الأكاذيب قاطبة) أن ''الاقتصاد السوري متوازن، رغم ما يعانيه من ضغوطات نتيجة العقوبات الاقتصادية الجائرة. وأنه يستطيع أن يبقى مكتفيا مهما طال أمد الأزمة، وأن متطلبات المواطنين متوافرة، بشكل كامل، بما في ذلك احتياطات العملة والحاجات الأساسية، وأهمها المحروقات''. مهلا.. مهلا لم ينته بعد، فهو يقول: ''إن لدى سورية مخزونا من القطع السوري يتجاوز الـ 600 مليار ليرة''. هذا التلفزيون نفسه، كان قد ''أكد'' قبل ذلك أن سورية حققت فائضا تجاريا خلال العام الجاري بقيمة ثمانية مليارات دولار أميركي! وعلى هذا الحال، ينبغي على الأسد الحفاظ على الأزمة كما هي والاستمرار في حرب الإبادة، لأن هذا الفائض من القطع السوري وفي القطاع التجاري، لم يتحقق أصلا خارج الثورة! وبهذا المعيار، على الأسد أيضا أن يستكمل إبادة كل الشعب السوري، إذا ما أراد أن تحتل سورية مركزا متقدما في قائمة الدول الصناعية الكبرى! فقد طرح رئيس وزرائه ''نظرية'' اقتصادية جديدة خارقة: الإبادة+ الخراب= اقتصادا مزدهرا فائضا! وربما جاءت في ''وقتها''، في ظل تخبط النظريات الاقتصادية التقليدية المعروفة (حاليا) على الساحة الدولية.
كُذِب الكاذب من قِبَل من هو أقل كِذبا منه. ممن؟ من نائبه للشؤون الاقتصادية قدري جميل. فهذا الأخير (الذي لم يقتله الأسد بعد، عقابا على إعلان له بأن رحيل هذا الأخير يمكن أن يُناقش على طاولة المفاوضات) يرى بأنه ''لو استمرت الأزمة في سورية ثلاثة أشهر أخرى، فإن الاقتصاد سيتوقف. ولذلك يجب أن تتوقف الأزمة فورا''. وفي تصريحات ''تمردية'' ربما يدفع ثمنها لاحقا، قال جميل: ''إن الاقتصاد يتراجع والإنتاج يتراجع، ولا يوجد تصريف، وهذا يظهر بتراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار واليورو، حيث إن استمرار الأزمة سيصيب الاقتصاد السوري بالسكتة القلبية''. نحن أمام رئيس وزراء ونائبه. كل ينقل مستقبل الاقتصاد في اتجاه متضارب تماما. الأول، يبشر باقتصاد متماسك مهما طالت الأزمة، والثاني يضع زمنا لموت الاقتصاد لا يتجاوز الثلاثة أشهر. والكل يعلم أن هذه الثورة التي انطلقت، لن تتوقف حتى لو طال أمدها ثلاثة عقود، إلى أن تحقق الهدف الأول لها، وهو إسقاط الأسد ونظامه الوحشي، والبدء ببناء دولة طبيعية، تندرج في سياق الواقع، لا الأكاذيب ولا الأوهام ولا الفساد ولا النهب ولا القتل ولا الإبادة. دولة تبني اقتصادا من جديد. فما خلّفه الأسد الأب والابن، خراب اقتصادي (ضمن الخراب الكلي) لا يُبنى عليه.
وإذا كانت حرب الإبادة انطلقت عمليا في أعقاب الثورة على هذا النظام الهمجي، فإن ''الإبادة الاقتصادية''، منطلقة منذ عقود في سورية، ومعها روابطها الاجتماعية والمعيشية. فقد كان الاقتصاد السوري يمكله الأب (بالمعيار الشمولي) على مدى ثلاثة عقود، وملَك من أراد ضمن هذا المضمون. وكل من ملك شيئا كان إما من الأسرة المالكة - الحاكمة، أو من سانديها، أو من مجمّلي صورتها القبيحة. والأمر اختلف عند الابن. فقد قلص قائمة ''الساندين'' و''المجمّلين''، لحساب الأسرة. ففتح الأبواب ليغلقها عليها هي فقط، ووزع المفاتيح على أفرادها. قام بأكبر سرقة اقتصادية في التاريخ، دون أن يلاحقه أحد.
وعندما يتناقض رئيس الوزراء ونائبه في أكاذيب اقتصادية علنية، فهما ينسقان الأدوار بصورة بائسة وفاضحة. الأول يريد أن يُطَمئن، والثاني يسعى إلى التخويف، على أمل أن يصيب أحدهما الهدف. ولكن كيف يمكنهما تحقيق أي هدف، عندما لا تملك سورية إلا أوراقا نقدية بلا رصيد أو سند، وقطعا أجنبيا متبخرا، بينما أصابت ''السكتة القلبية'' الاقتصاد السوري، منذ عقود؟ إنه ''جثة'' وضعها بشار الأسد في ثلاجته، معتقدا أنه سيحفظها إلى الأبد، هو وحافظ الأسد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق