الاثنين، 24 سبتمبر 2012

لص قوي+ فرص مباحة = أموال منهوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«أخشى، أنه يجب علينا أن نجعل من العالم أمينا، قبل أن نعلم أطفالنا، أن الأمانة هي أفضل السياسات قاطبة»
جورج برنارد شو أديب إيرلندي


كتب: محمد كركوتــي


حسنا.. غالبية أصحاب القرار في دول العالم، تتمتع بنوايا حسنة وطيبة في العمل على رد الأموال التي نهبها طغاة لصوص من شعوبهم. والعرب بالطبع من هذه الشعوب. ما إن يسقط طاغية منهم، أو يدخل في طور السقوط، حتى تتكشف الأرقام الهائلة للأموال والممتلكات السرية. بعضها لا يترك مجالا حتى للخيال، من هول حجمها، وأساليب سرقتها، وأماكن تخزينها، ومنهجية حمايتها، وطرق تدويرها. والمعادلة مفهومة. ''لص قوي+ فرص متاحة = أموال منهوبة بلا حدود''. وهو ينهب بشرعية منحها لنفسه، ولا يعترف بها إلا اللصوص. هذه ''الشرعية''، هي في النهاية الحصانة الحتمية له، لكي يحمي نفسه، ممن؟ من المنهوبين، ولإسكات المراقبين ''الطيبين''، الذين يختبئون وراء قوانين وضعوها هم أنفسهم، ويتعاطون معها، كنصوص مقدسة لا تُمس في غالب الأحيان. وعلى هذا الأساس، تراهم يتحدثون عن حقوق المنهوبين بأموالهم المسروقة، ولكن بعد أن ''يغنوا النشيد القانوني'': ''ما باليد حيلة فورية''. وهذا يعني أن هناك ''حيلة غير فورية''.
قبل عام تقريبا، قدر صندوق النقد الدولي الأموال ''المغسولة'' سنويا، بحدود 3500 مليار دولار أمريكي (ما يعادل حجم الإنفاق السنوي للحكومة الفيدرالية الأميركية تقريبا). ويصل حجم الأموال المنهوبة من الشعوب (من هذه المصيبة السنوية) إلى النصف أو ما يقرب من 1700 مليار دولار. مرة أخرى للشعوب العربية نصيب كبير فيها، وتحديدا في الدول التي قررت فيها الأنظمة أن تمتلكها، وتمتلك شعوبها معها. فحسب التقديرات الأولية (على سبيل المثال)، فقد نهب زين العابدين بن علي ومعه أسرته ما يزيد عن 40 مليار دولار، كـ ''مكافأة نهاية الخدمة''، وحسني مبارك وعائلته ''كوشوا'' على 70 مليار دولار كـ ''أتعاب رئاسة''. ونفح معمر القذافي نفسه وأولاده وزوجته المفضلة بـ 120 مليار دولار كـ ''أجرة على قيادة الثورة''. وقائد الممانعة والمقاومة والعروبة بشار الأسد، حصل على ما بين 30 و40 مليار دولار كـ ''إكرامية لقيادته سفينة القومية''.
وبشكل عام.. ورغم أن ''بركات'' الأزمة الاقتصادية العالمية المنفجرة في عام 2008، أفرزت تشددا كان مطلوبا منذ عشرات السنين، حيال الأموال المنهوبة، إلا أن هذا التشدد لا يزال يحبو، لأسباب كثيرة، في مقدمتها، وجود ما يمكن أن نطلق عليه ''أشباه الدول''، التي توفر ملاذات آمنة ومزدهرة لهذه الأموال المشينة. وقد نجحت (ولا تزال) في ابتكار أساليب جديدة ومتجددة للتحايل على أي جهود تستهدف هذه الأموال. هي في الواقع تعيش عليها، وتمثل لها الدخل القومي السنوي الأكثر سهولة والأشد قباحة ودناءة في العالم أجمع. ومهما كانت نوايا الدول الكبرى حسنة وصادقة، فلا تزال تفتقر إلى الآليات الفاعلة لإعادة أموال الشعوب المنهوبة إلى مستحقيها، مع غياب تعاون دولي حقيقي ومستدام بهذا الخصوص. بل هي نفسها، تواجه مصاعب كبيرة في ملاحقة هذه الأموال على أراضيها، إلى جانب تقاعس بعض الحكومات في هذا المجال، بمن فيها الحكومة البريطانية، التي تعرضت أخيرا لحملة انتقادات داخلية شديدة، لتأخرها في التعامل مع ملف الأموال المنهوبة.
فقد كشفت بعض التحقيقات الميدانية، أن لندن، لم تستجب بما يكفي لمطالب دول الربيع العربي، بشأن تحديد وتجميد وتسهيل عملية استرجاع الأموال المنهوبة منها. وقد دفع هذا الأمر البعض إلى السخرية من حكومة ديفيد كاميرون، بعد تمكن عدد من الصحافيين (بجهود متواضعة)، من تحديد مواقع عقارات وأصول أخرى وحسابات مصرفية، تعود إلى رموز سابقين في الأنظمة العربية التي أطاحت بها شعوبها. ومع ذلك، فإن القضية تتطلب جهودا مشتركة ومترابطة ليس فقط بين الحكومات الحريصة على أموال الشعوب المنهوبة، بل أيضا بين مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، والأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والإنتربول، ومنظمات مكافحة غسل الأموال بكل أنواعها.
غير أن هذا كله، لا يضع المسألة في المسار الصحيح، حتى لو حسنت النوايا، وصدقت الرغبة في إحقاق الحق المغيب منذ عقود. فالمطلوب أولا (وببساطة)، تخفيف القوانين المالية (الخاصة بهذا النوع من القضايا) المعمول بها في الدول الراشدة، قبل استهداف ''أشباه الدول'' وملاذاتها المشينة. أي أن تكون هناك مرونة قانونية في تحديد الأموال المنهوبة، والإجراءات الكفيلة بردها بأسرع وقت ممكن، بدلا من التمسك بقوانين وُضعت قبل عدة عقود، وتحكمها في الواقع الحجج الإجرائية، وصعوبة المتابعة، وتعدد الأسماء المتورطة، ووجود أسماء لا ترتبط مباشرة بالناهبين أنفسهم. فالأصحاب الحقيقيون لهذه الأموال، يحتاجونها اليوم أكثر من أي وقت مضى. إنهم يعيدون بناء اقتصادات من نقطة الصفر، تم اختصارها على مدى عقود طويلة، في مجموعات من قطاع الطرق، اعتقدوا أنهم مستمرون إلى الأبد، ويسعون الآن إلى طمر ما نهبوه من شعوبهم. إن المسألة برمتها ليست اقتصادية ولا إجرائية ولا قانونية ولا قضائية، وبالتأكيد ليست سياسية.. إنها مسألة ضمير، تخص مستقبل أمم بأسرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق