الاثنين، 10 سبتمبر 2012

الأسد يفرض اقتصاد العصر الحجري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''الفاجعة، مثل الأسيد الخالص. يُذوِب كل شيء إلا الحقيقة''.ديفيد هيربيرت لورانس - أديب وشاعر إنجليزي


كتب: محمد كركوتـــــي


أوقع سفاح سورية بشار الأسد الشعب السوري في كل أنواع المصائب والفواجع والمآسي: قتل، تعذيب، اعتقال، تنكيل، تهجير، تدمير، تخريب، تفقير، تجويع، حصار، تطهير اجتماعي، تبعه آخر طائفي.. كلها تشكل المشهد اليومي للفرد السوري. استعذب الأسد تحويل مناطق شاسعة في البلاد إلى مناطق منكوبة، أفرزت بصورة مباشرة أعدادا هائلة (بلغت حسب الأمم المتحدة ثلاثة ملايين نسمة) من المحتاجين إلى المعونة. والمعونة هنا تعني (بالمعيار العالمي) الخبز والماء والدواء، وليس مستلزمات الترفيه والعطلات الموسمية. وحسب توقعات المنظمات الدولية، فإن عدد الذين يستحقون المعونة سيصل بنهاية العام الجاري إلى أربعة ملايين نسمة داخل سورية، إذا لم يسقط الأسد، الذي يشكل وجوده (حتى قبل الثورة الشعبية العارمة)، عارا أصيلا على الإنسانية والمعايير الأخلاقية التي تستند إليها، بصرف النظر عن الصيحات ''الطرزانية'' القادمة من الغرب، بأن ''أيام الأسد باتت معدودة''. لقد أصبحت بمنزلة ''أقوال مأثورة'' في معجم فكاهي.
أعاد بشار الأسد (حفيد سليمان الأسد، أحد الذين استجدوا فرنسا رسميا لمواصلة استعمارها لسورية في ثلاثينيات القرن الماضي)، من له القدرة من السوريين على مزاولة المقايضة في سبيل ضمان يومي إضافي في الحياة. فحتى هذه ''التجارة'' العائدة إلى العصر الحجري، ليست متوافرة للسواد الأعظم من السوريين، لأنهم لا يملكون أصلا ما يقايضون به. وقبل الحديث عن هذا التحول المأساوي، قد يكون مفيدا استعراض واقع حال الاقتصاد ''السوري''، الذي لم يكن وطنيا في عهدي الأسد الأب والابن على الإطلاق. كان اقتصادا خاصا بعائلة قاتلة سارقة، ''صادف'' – حسبما تعتقد - أنه يخص أمة بأكملها!
لقد باتت الخطوط المكونة لخريطة الاقتصاد في سورية على الشكل التالي: تراجع الاحتياطي من القطع الأجنبي إلى ما بين ثلاثة وأربعة مليارات دولار، من 18 مليارا خلال 17 شهرا. اختفاء احتياطي الذهب كاملا بعد سرقته وتهريبه وتسويقه في الخارج، وتقدر قيمته ما بين مليارين وثلاثة مليارات دولار. بلغت نسبة تراجع العوائد في القطاع السياحي 95 في المائة (الأسد يعترف بـ 75 في المائة)، والـ 5 في المائة الباقية هي في الواقع محصورة بـ ''حجاج'' إيرانيين، من السهل كشف هوياتهم كعناصر ''مؤمنة'' تنتمي إلى ما يسمى الحرس الثوري الإيراني. في مدينة الصناعة السورية (حلب)، توقف أكثر من 75 في المائة من مصانعها عن العمل، والأغلبية منها أغلق تماما. القطاع الزراعي خسر قرابة ملياري دولار، خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري. النفط المنهوب أصلا، يُباع بنصف سعره الحقيقي، إن وُجِد من يشتريه دون خوف من عقوبات غربية عليه. البطالة في كل شرائح ما تبقى من المجتمع السوري، قفزت إلى 50 في المائة، وبلغت في القطاع السياحي أكثر من 70 في المائة.
هذا هو باختصار الوضع الاقتصادي المفجع، الأمر الذي وفر الأرضية لـ ''اقتصاد المقايضة''. ففي المناطق الزراعية التي لم تصل آلة ''هولاكو الأسد'' إليها، يقوم المزارعون بالتكيف قدر الإمكان مع ما فرضه هذا السفاح، وذلك عن طريق إنتاج ما يكفي لاستهلاك أسرهم، وما يزيد على ذلك يقايضونه للحصول على منتجات أخرى ضرورية. طبعا يجري هذا بعيدا عن المناطق التي توالي الأسد، ويقطن أغلبيتها سكان ومزارعون ينتمون إلى طائفته. ففي سورية الآن يجري تطهير طائفي، هو مرحلة لاحقة للتطهير الاجتماعي. ووفق هذه الاستراتيجية المريعة (التي ينبغي أن تجبر العالم أجمع على ضربها)، فقد منعت عصابات الأسد المستلزمات الزراعية للمناطق غير الموالية له، وفي أفضل الأحوال، رفعت أسعار الأسمدة والمبيدات، بما يضمن استحالة وصول المزارع إليها. المصيبة التي تضرب المزارع السوري لا تتوقف عند حدود إحياء ''اقتصاد المقايضة''، بل تشمل أيضا تبعات الهجرة المعاكسة من المدن إلى الريف، هربا من الآلة العسكرية الهمجية للأسد، التي تنوعت، ما بين سكاكين ''الشبيحة'' والمقاتلات والسفن الحربية، ما زاد الهم هموما، والفاجعة فواجع. مهلا.. مهلا، قوات الأسد وعصاباته لا تمنع مستلزمات الزراعة، ولا تحرق الأراضي الزراعية بأسلحتها فحسب، بل تقتل ما أمكن من ماشية المزارعين، في سياق قتلها المزارعين أنفسهم. حتى الحمير شكلت أهدافا استراتيجية لهذا النظام الوحشي! ورغم اعتماد الأسرة الريفية المنكوبة على إنتاج ما أمكن لها لسند معيشتها اليومية، والمقايضة بما يفيض منها، فقد أورد تقرير مشترك لـ ''منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)'' و''برنامج الغذاء العالمي''، أن ثلث سكان الريف يحتاجون إلى المساعدة سواء في قوتهم اليومي، أو في توفير أعلاف الماشية، أو المستلزمات الزراعية. لكن حتى لو توافرت المتطلبات هذه، علينا ألا ننسى أن دخول فصلي الشتاء والخريف في سورية، سيرفع عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية (مزارعين ومدنيين) إلى أكثر من خمسة ملايين نسمة. ففي فصلي الصيف والربيع يرتفع عدد هؤلاء بمعدل 300 ألف شهريا، فكيف الحال بالفصلين القاسيين؟ وإذا كان بعض المزارعين يملكون شيئا للمقايضة به، فالملايين لا يحلمون بترف المقايضة. إنه التطهير.. التطهير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق