السبت، 21 يناير 2012

لماذا لا يكون اقتصاد سِلم؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"الحكماء يتحدثون لأن لديهم شيئاً يقولونه. الحمقى يتحدثون لأن عليهم أن يقولوا شيئاً"
أفلاطون فيلسوف إغريقي

 
كتب: محمد كركوتـــــي
 
مهما استسهلت إيران خطتها "المؤجلة" لإغلاق مضيق هرمز، حتى لو اعتبرتها مجرد "شربة ماء"، ومهما كان التزامها بنشر توتر دائم في المنطقة، ومهما استحسنت عدم الاستقرار الإقليمي، ومهما تصلب رفضها للحوار ولعلاقات طبيعية إقليمياً ودولياً. فإنها بلا شك تعيش أزمة اقتصادية عميقة، مهما حاولت تجاهلها، ومهما بلغ مستوى نكرانها لوجودها، ومهما سعت لتكميم أفواه الإيرانيين الذين يعرضون الحقائق الموجودة على الأرض، لا الأوهام ولا التمنيات. وكما الأنظمة السياسية المتخاصمة مع نفسها أولاً، ومع واقعها وبيئتها ثانياً، ومع التحولات المحلية والإقليمية والدولية ثالثاً، ومع متغيرات الفكر السياسي العالمي رابعاً، كذلك النظام في طهران، يحمل الآخرين مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية، دون مراجعة واقعية لدوره في ذلك، ويلتزم خطاباً محلياً عقيماً يجهد نفسه بصورة بائسة لتعميمه عالمياً. ولا أدري إذا ما كان النظام الإيراني، يعرف بأن الإيرانيين أنفسهم، اكتشفوا هذا العقم منذ زمن؟ والحقيقة إنهم يعيشون تداعياته وأثاره وهمومه. يدفعون تكاليف "منتجات ومُستهلكات سياسية"، لم "يشترونها"، وأوهام إقليمية، تأكدوا منذ سنوات أنها عصية عن التحول إلى حقائق.

عودتنا إيران منذ ثورتها في العام 1979، أنها تصيغ سلوكياتها (ولا أقول سياستها)، من مادة خام واحدة، وهي المصاعب الداخلية التي تواجهها، دون أن يحمل النظام الحاكم فيها نفسه (ولو مرة واحدة) مسؤولية هذه المصاعب. وعندما يهدد نظام خامنئي باستحداث توتر في المنطقة، رداً على تصعيد العقوبات الاقتصادية الغربية عليه، يتجاهل أن الأزمة الاقتصادية الداخلية في بلاده، اندلعت في الواقع قبل هذه العقوبات. صحيح أنها تعمقت بعدها (وهذا طبيعي)، لكنها كانت موجودة، تضرب المجتمع الإيراني في كل القطاعات.. البطالة، تراجع قيمة العملة الوطنية، تردي الاستثمارات، ارتفاع كلفة الواردات، تقليص موارد البلاد من العملات الصعبة، توقف حتى الاستثمارات في القطاع النفطي.. منها. ولمن نسي، كانت هذه المشاكل والأزمات حاضرة على الساحة الإيرانية، قبل 18 شهراً، هي في الواقع عمر العقوبات الغربية المفروضة على إيران، بسبب برنامج نووي، يصر خامنئي وأعوانه على المضي قدماً فيه، رغم كل العروض التي قدمت له، بما في ذلك إمكانية أن تمتلك البلاد قوة نووية سلمية خاضعة للرقابة الدولية. لقد عززت طهران من خلال رفضها التعاون في هذا المجال، الشكوك التي تحوم حول نيتها من امتلاك قوة نووية، ستكون خاضعة لحلم "الثورة"، (بل أحلامها)، ليست المحلية فقط بل الخارجية أيضاً. ولا أشعر بالتردد في وضع عدة خطوط حمراء تحت هذه الأخيرة، لا لفت الانتباه إليها، بل للتأكيد على حقيقتها.

ماذا كانت نتيجة السلوكيات الإيرانية الحالمة منها والوهمية؟ كانت مطالبة المسؤولين الإيرانيين الذين قرروا أن يكونوا واقعيين، بضرورة أن تتبع البلاد "اقتصاد الحرب"! وهم بذلك استبعدوا علانية، أي احتمال لاتباع "اقتصاد السلم"، على الرغم من أن تكاليف الثاني لا تقارن بأي حال من الأحوال، بتكاليف الأول، هذا إذا كانت هناك تكاليف حقيقية أصلاً لـ "اقتصاد السلم". ورغم واقعية هؤلاء المسؤولين، لم يجرؤا على القول، إن "اقتصاد الحرب"، سيؤدي إلى ارتفاع خطير لمعدلات البطالة، وتعاظم هائل لنسبة التضخم، وإن الشرائح التي تعيش تحت خط الفقر ستتوسع، وإن إيرادات الخزانة العامة ستتقلص، وإن ارتفاع الدين العام سيتواصل، وإن القدرة الشرائية للتومان ستزداد ضعفاً. وبالتأكيد لم يجرأ هؤلاء على طرح ضرورة اتباع "اقتصاد السلم"، لأن ذلك يتطلب شيئاً واحداً، لا يبدو أن النظام الإيراني الحالي يمكن أن يوفره، أو (على الأقل) يفسح المجال أمامه، وهو التخلص من سلوكيات سياسية "ثورية"، تحولت إلى عملة لا قيمة لها، مرفوضة إقليمياً، وغير مقبولة دولياً. سلوكيات تحاصر أصحابها لا المستهدفين منها. سلوكيات لا يستعذبها سوى نظام واحد في المنطقة العربية، هو نظام بشار الأسد في سوريا، الذي من المفترض أن إيران تعرف أنه آيل إلى السقوط، ومعه توابعه الإيرانية أيضاً. سلوكيات باتت تحرج حتى ما تبقى من أصدقاء لإيران (وهم قليلون جداً)، يحاولون الآن التخلص من تبعات هذه الصداقة.

لقد خلفت "سلوكيات الحافة" التي تمارسها طهران منذ سنوات، مصائب اقتصادية كبرى. فقد بلغت التنمية مستويات لا تذكر، وارتفع عدد العاطلين إلى أكثر من 25 في المائة، بل باتت البطالة المقنعة في البلاد، بؤرة أوئبة خطيرة في الكيان الاقتصادي. ولا أشك في أن النظام القائم هناك، يعرف مدى المخاطر الداخلية الناجمة عن مثل هذا الوضع الاقتصادي. فقد اكتوى بنارها في انتفاضات عدة، وكلما ازداد الاقتصاد تردياً، كلما أكملت الانتفاضات عناصرها، خصوصاً وأن "اقتصاد الحرب" الحتمي، لم يفرضه عدوان على إيران، ولا نوايا لاحتلالها، ولا مخططات لإزاحتها عن الخريطة، ولا أجندات لتجويع الشعب الإيراني. إنه اقتصاد بفعل فاعل.. إنه فاعل وطني لا إقليمي ولا دولي، أحبه كثيراً، في زحمة كراهية لا حدود لها لـ "اقتصاد السلم"، بعناصره السياسية الحكيمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق