السبت، 21 يناير 2012

بين الأمن الغذائي وأمن الأسد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"لا أحد يستطيع الكذب، لا أحد يمكنه إخفاء أي شيء، عندما ينظر مباشرة إلى عينيك"
باولو كويلهو أديب ومؤلف برازيلي



كتب: محمد كركوتـــي
 
يطيب لبشار الأسد وأعوانه الحديث عن قدرة سورية في مجال الأمن الغذائي، واستعذب هؤلاء تكثيف حديثهم هذا، في ظل العقوبات التي تفرضها الدول الغربية، وبعض الدول الأخرى على الأسد، بسبب حرب الإبادة التي يشنها ضد السوريين العزل، علماً بأن العقوبات العربية التي أُعلنت، لم تدخل حيز التنفيذ بعد، وذلك لاستكمال "ما تبقى لدى العرب" من مهل وفرص، كانت كافية لإنقاذ أي طاغية على مر التاريخ، رغم العدوان اللفظي تلو الآخر الذي يشنه الأسد على العرب، بما في ذلك التشكيك بعروبتهم، واتهامهم بأنهم ينفذون "مؤامرات بأجندات خارجية"! والمشكلة هنا، أن أحداً لا يعرف الحجم المتبقي من تلك المهل والفرص.

وبعيداً عن هذه الإشكالية التي باتت تحرج العرب يومياً طبقاً لما يجري حقيقة في سورية، فإن الإنكار اليومي للسلطة هناك بأن الأمن الغذائي في البلاد بخير، وأن سورية تفخر بكونها من الدول التي تتمتع بمثل هذا الأمن، لن يغطي على الواقع الخطير للأوضاع الغذائية، وهو يواجه التهديد حقاً، تماماً كما الأمن العام في البلاد، الذي اختصره الأسد بعملياته العسكرية ضد الشعب الأعزل، بأمنه الشخصي وأمن نظامه فقط. فليس مهماً أن تتحول حمص وإدلب ودير الزور وعشرات المناطق الأخرى في سورية إلى محافظات ومدن منكوبة، المهم أن يبقى النظام بكل التكاليف، والمهم أيضاً ألا تتوقف "غزارة" المهل والفرص العربية، التي بات ينظر إليها السوريون الأحرار، على أنها "هدايا بلا مناسبات".

في كل مرة تتعرض فيها السلطة لعقوبات ما، يؤكد الأسد وأعوانه، بأن سورية "محسودة" على وضعها المالي والغذائي خاصة، والاقتصادي عموماً. وكالعادة، فالحقيقة هي عكس ذلك تماماً. والغريب أن نكران الواقع لا يتطلب عناء لدحضه من جانب الشعب السوري أولاً، ومن جهة المتابعين لسير الأوضاع في هذا البلد. فماذا يعني الأمن الغذائي؟ يعني أن تكون البلاد مكتفية من المواد الأساسية أولاً، وأنها قادرة على الحفاظ على مستوى إنتاجها من الغذاء في كل الظروف والأوضاع التي تمر بها، سواء تعرضت للحصار أو الضغوط، أو أنها استُهدفت –كغيرها- من أزمة اقتصادية إقليمية أو عالمية. ولكن ما هو الوضع حقيقة على الأرض؟ سأستعين بأرقام حكومية سورية، لا بأرقام تطلقها "جهات مندسة". تحتاج سورية سنوياً لاستيراد أكثر من مليوني طن من الذرة، و300 ألف طن من الأرز، و800 ألف طن من الشعير، وآلاف الأطنان من السكر، واستوردت البلاد أكثر من 4،6 ملايين من الحبوب مثل القمح والشعير في العام الماضي، وطبقاً لأرقام حكومية أيضاً، فإنها سترفع نسبة استيرادها من هذه المواد الأساسية 700 ألف طن أخرى في العام الجاري. يضاف إلى ذلك، أنها تستورد كميات كبيرة جداً من بذور الحبوب، أي أنها ليست مكتفية ذاتية في هذا المجال. وعلينا أن نتخيل الصورة كاملة، عندما نأخذ في الاعتبار القرارات الاقتصادية الرعناء بوقف التعامل بالدولار الأميركي واليورو واللجوء إلى ماذا؟ إلى الروبل الروسي. فعمليات الاستيراد هذه (وغيرها)، لا تتم إلا بعملات لها قيمتها ووزنها وحصانتها، وبالتأكيد الروبل لا يتمتع بأي منها، وهذا يعني خسائر فادحة إضافية يتكبدها الشعب السوري. ومن جانب آخر، فقد أعلنت منظمة الأغذية والزراعة التابعة (الفاو) للأمم المتحدة، قبل عام ونيف (أي قبل الثورة الشعبية السلمية العارمة في سورية)، أن أسعار المواد الغذائية في سورية، ارتفعت في العام 2010 أكثر من 16 في المائة، وأن أسعار الخضار ارتفعت بنسبة خرافية بلغت 80 في المائة! ومن المتوقع أن تواصل الأسعار ارتفاعها (بما في ذلك أسعار الخبز) في الأسابيع الأولى من العام الجاري.

ينطبق ما قاله الكاتب الأميركي إيرك هوفر قبل أربعين سنة، على حال الأسد وأعوانه. ماذا قال؟ "نحن نكذب بصوت عال جداً، عندما نكذب على أنفسنا". فرئيس السلطة في سورية يعرف الحقيقة كاملة، إلا إذا اعتبرنا أنه مجرد سائق سيارة مقودها في المقعد الخلفي، وهو ليس كذلك على الإطلاق. ويعرف ومعه أعوانه، أن سورية تعاني أزمة في الغذاء، ترتفع حدتها مع سياق عمليات السرقة والنهب والفساد في البلاد، وأن العقوبات الغربية المفروضة عليه، لا تمس بأي حال من الأحوال الجانب الغذائي والخدمات الضرورية للمواطن السوري. وفي الواقع، تأخرت هذه العقوبات كثيراً، لأن فارضيها قضوا أشهراً يبحثون عن أنجع الطرق، لكي تنال من السلطة لا من الشعب، الذي يعاني أصلاً من مآس معيشية يومية.

ليس هناك بلداً يستورد الحبوب يمكن أن يتبجح مسؤوليه بوجود أمن غذائي، ولا توجد دولة ترتفع فيها أسعار المواد الغذائية بصورة جنونية، يمكن أن تتحدث عن مثل هذا الأمن. والاقتصاد السوري ليس محسوداً كما يروج الأسد وأعوانه، في محاولات بائسة لإزالة الشكوك حول مصيره المحتوم. وإذا كان هناك محسود في سورية، فهو في الواقع الأسد نفسه، الذي ما زال يتمتع بفرص ومهل عربية، وتردد غربي في حسم الوضع المأساوي في سورية، دون أن يعرف أن كذبة واحدة تدمر كل النزاهة.

هناك تعليقان (2):