الأربعاء، 10 أغسطس 2011

طاغية الإعلام

(المقال خاص بمجلة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")








"لا يمكن أن تبني مؤسسة قوية، مليئة باللجان، وبمجلس تستشيره في كل شيء. عليك أن تكون قادراً على صنع القرار بمفردك"
روبرت ميردوخ أكبر المستثمرين الإعلاميين في العالم

 
  
* شيئاً فشيئاً، بات ميردوخ يسيطر على 40 في المائة من الإعلام البريطاني * طور ميردوخ أدوات الإعلام، لكنه ضرب عرض الحائط بأخلاقيات هذه المهنة * من مقولات طاغية الإعلام العالمي "سمعتنا أهم من آخر مئة مليون دولار أميركي نجمعه" * ليس أمام ميردوخ مساحة للمناورة على الساحة البريطانية

  كتب: محمد كركوتـــي
 
في منتصف ثمانينات القرن الماضي، بدأ الاسترالي- الأميركي روبرت ميردوخ، حملته للانقضاض على ما أمكن من وسائل الإعلام البريطانية. كنت وقتها صحافياً صغيراً أعمل متعاوناً مع جريدة "التايمز" العريقة، كنت أتهيب دخولها كل يوم، حتى بعد أن صرت واحداً من مئات يعملون فيها، وفي شقيقاتها الأخريات. كانت هذه الصحيفة التي انطلقت في العام 1785، وشهدتُ احتفالها الكبير عام 1985 بمرور 200 عام على صدورها، تمثل جزءاً من وجدان بريطانيا، لتكمل هذا الوجدان مع زميلاتها الأخريات الرصينات. وبعد معارك عنيفة، ودعم لا محدود من حكومة مارجريت ثاتشر آنذاك، استطاع ذلك "الكابوي" الاسترالي السيطرة على هذه المؤسسة. وهو لم يكن غريباً كثيراً على الساحة البريطانية، إذ كان يملك صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" الأسبوعية الشعبية التي بلغ توزيعها في بعض الفترات أكثر من 6 مليون نسخة، والتي أُغلقت مؤخراً بسبب فضائح التجسس التي كان صحافيوها يقومون بها على الشخصيات العامة، والناس العاديين.
شيئاً فشيئاً، بات ميردوخ يسيطر على 40 في المائة من الإعلام البريطاني. ولا يمكن لهذا الطاغية الإعلامي، المسيطر إعلامياً بصورة كبيرة جداً في بلاده الأصلية والولايات المتحدة، إلا أن يكون شاكراً دائماً لثاتشر، التي قفزت فوق قوانين الاحتكار من أجله. ومع انطلاق عصر القنوات الفضائية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كان الطاغية مستعداً لهذا العصر بكل ما يملك، فكان سباقاً لإطلاق شبكة "سكاي" الضخمة، ولكن سرعان ما واجه مشاكل مالية في هذه الشبكة، التي اضطرته للتحالف مع شبكة "بي بي سي" الفضائية التي أُطلقت حديثاً آنذاك، والتي كانت هي الأخرى تواجه نفس المشاكل (تملك مؤسسة ميروخ "نيوز كوربوريشن" 39,1 في المائة منها). أُدرجت المؤسسة المتحالفة في البورصة تحت اسم "برتيش ساتيلات بوردكاستينج" أو British Satellite Broadcasting المعروفة اختصاراً بـ BSKYB . ماذا كان يسعى الطاغية، قبل أن تُسقطه في بريطانيا جريدته "نيوز أوف ذي وورلد"، وتسقط معه أيضاً؟ كان يسعى للاستحواذ على أسهم المؤسسة، وعرض مبلغاً وصل إلى 12 مليار جنيه استرليني. كان يريد أن يسيطر عملياً على أكثر من 60 في المائة على الأقل من الإعلام البريطاني ككل!

أخلاق المهنة
طور ميردوخ في بريطانيا (كما في أستراليا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان)، أدوات الإعلام، لكنه ضرب عرض الحائط بأخلاقيات هذه المهنة. فقد أظهر أنه يؤمن بـذلك المبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، بصورة توازي إيمان ميكافيلي نفسه به، ومع تعاظم سطوته في هذا القطاع، بات يهاجم نفسه، على تلك الفترة القصيرة، التي آمن فيها بالمعايير اليسارية عندما كان في أول درجات السلم الإعلامي. فلا عجب في أنه –على سبيل المثال- قلص عدد العاملين في مجموعة "التايمز" (عندما اقتنصها) وواجه نقابة عمال الطباعة بحركة استفزازية، حيث قام بطرد آلاف العمال دون سابق إنذار. ولأنه كذلك، فقد نقل في المملكة المتحدة، ما يملك من وسائل إعلامية، من معسكر المحافظين إلى معسكر العمال، في الانتخابات التي فاز بها الحزب العمالي عام 1997. وفي انتخابات العام 2010 عاد لينقل هذه الوسائل المؤثرة إلى معسكر المحافظين. فقد أثبت أن الإعلام في أي مكان، ليس حراً تماماً، من سطوة مموله أو المستثمر فيه، وأن قوانين الاحتكار البريطانية، التي قفزت فوقها ثاتشر، وُضعت لتأمين أعلى مستوى من الحرية للإعلام، ولكن هناك إرادة سياسية يمكنها مواصلة "القفزات"، ولو إلى حين.

أحلام الاستحواذ
من مقولات طاغية الإعلام العالمي "سمعتنا أهم من آخر مئة مليون دولار أميركي نجمعه". وفي الوقت الذي ينبغي فيه ألا تقدر السمعة بثمن، فقد حدد ثمنها. ولهذا السبب فقدَ صحيفة شعبية هائلة التوزيع، صدرت قبل أكثر من 165 عاماً، لأنه كان يحقق مكاسب تفوق المئة مليون دولار! فلا معنى للسمعة إذن. وقد فقدَ أيضاً حلمه بالاستحواذ الكامل على شبكة " بي سكاي بي"، حيث أُجبر على سحب عرضه، بعدما انبرت المؤسسات السياسية والاجتماعية البريطانية، تهاجمه من كل الاتجاهات. هذه الشبكة التي كان بإمكانه أن يوسع دائرة سيطرته على الإعلام البريطاني من خلالها، إذا ما فاز عرضه الهائل. فمع تراجع عدد قراء الصحف والمطبوعات عموماً في بريطانيا والعالم أجمع، بات التلفزيون (ومعه وسائل الإعلام الاجتماعي)، الذراع الأقوى للتأثير والانتشار، وبالتالي تمرير السياسات البريئة والمريبة .. وأحياناً المريعة. استطاعت هذه الشبكة، على مدى أكثر من 15 عاماً، أن تخطف شرائح عريضة من المجتمع البريطاني، لاسيما شريحة الشباب، من القنوات المحلية التاريخية العريقة، التي تتقدمها تلك التابعة للـ " بي بي سي". صحيح أن هذه الأخيرة تشارك مؤسسة ميردوخ في "بي سكاي بي"، لكن الصحيح أيضاً أن المعايير التي تستند عليها هذه الشبكة، تختلف عن تلك التي قامت عليها الشبكات التلفزيونية الأخرى. إنها متطابقة لمعايير شبكة "فوكس" التي يملكها الطاغية في الولايات المتحدة. إنها يمينية حتى العظم، وينظر لها الراشدون على أنها غير بريئة، رغم اعترافهم بقدرتها على خطف الإعجاب، على الأقل للوهلة الأولى.

تصحيح الأخطاء
ليس أمام ميردوخ مساحة للمناورة على الساحة البريطانية. فبعد الأعمال المشينة التي ارتكبتها إحدى صحفه الأوسع انتشاراً في البلاد، بات الحديث يدور الآن، عن إمكانية التحرك لتفكيك إمبراطورتيه، من أجل تصويب أخطاء نالت من القوانين الإعلامية المرعية على مدى ثلاثة عقود تقريباً، وضربت الأخلاقيات والقيم الإعلامية، في بلد افتخر دائماً بحرية لا حدود لها للإعلام، التي تستند على معايير حرية التعبير المقدسة. والحقيقة، أن الساحات الأخرى التي ينعم فيها طاغية الإعلام بالسيطرة على جزء من المقدرات الإعلامية –إن جاز التعبير- بدأت تدرس حالة ميردوخ البريطانية باهتمام شديد، تحسباً لانتقال عدوى الأعمال المشينة إليها. إن التحرك البريطاني الآن، يؤسس لتحرك عالمي باتجاه احتكار الإعلام، ويجرد الممولين والمستثمرين الكبار في هذا القطاع، من جانب كبير من تأثيرهم على المجتمع بصفة عامة. ولا شك في أن ميردوخ خسر هذا التأثير، حتى ولو استمر في امتلاك وسائله الإعلامية المتبقية له في المملكة المتحدة.
إن ما يجري الآن، هو تصحيح لأخطاء كان يمكن تفاديها، لولا "قتال" مارجريت ثاتشر، إلى جانب ميردوخ في منتصف ثمانينات القرن الماضي. كان قتالاً من أجل مكاسب سياسية، لا أخلاقية، خصوصاً عندما أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة بصورة واضحة، أنه لا يوجد شيء اسمه المجتمع، هناك شيء واحد فقط اسمه السوق!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق