الثلاثاء، 15 فبراير 2011

مصر التي في خاطرهم

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"سر السعادة هو الحرية، وسر الحرية هو البسالة"
ثوكوديدس مؤرخ ومؤلف إغريقي




محمد كركوتــي

في 18 يوماً فقط، خرجت مصر من عصر إلى آخر. وفي هذه المدة الضئيلة زمناً، العميقة قوة، خرجت البلاد، من مرحلة طويلة جداً، كان يُكتب لها تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالنيابة، وكان يتقرر مصيرها على أيدي مفوضين لم يَتَفوضوا، وممثلين لم يُمثَلوا، ومندوبين لم يُنتَدبوا. وكانت مرحلة طويلة جداً، شهدت اتخاذ قرارات لم تُناقَش، وخطوات لم تُبحَث. شهدت خلطاً كبيراً بين العام والخاص. بين الملكية المطلقة، والملكية الغائبة. بين الأمل والواقع المفروض بقرار. شهدت ظهور رأسمالية سياسية، لا رأسمالية اقتصادية. رأسمالية من ذلك النوع، الذي يفرز رجال أعمال، يستحوذون على كل شيء على مدار العام، ويختارون يوماً من أيام هذا العام، يحرصون فيه على التقاط الصور مع مسؤولين عن جمعية خيرية هنا، أو ملجأ أيتام هناك، ولا بأس من صور لهم، خاشعين فيها داخل مساجد تحمل أسمائهم. رأسمالية ناشئة عن "زواج" بين سلطة معروفة، ورؤوس أموال بلا مصادر معروفة. المصدر ليس مهماً. المهم أن ينجح هذا الزواج بين المال والنفوذ، وبين الحرية الاقتصادية الخالية من الضوابط، وبين السياسة الضاغطة أو المفروضة قسراً. بين مال هو في دائرة الشك، وبين سلطة أحكمت الدائرة لمصلحته.

والمصيبة التي واجهتها مصر منذ الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 1952 وحتى الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، أنها عاشت بين رحى اقتصادين اثنين، لا ثالث لهما. الأول أغلق البلاد وقُذِف بالمفتاح عرض البحر، والثاني أغلق البلاد أيضاً، ولكنه منح مفاتيح قليلة جداً، لعدد قليل جداً، من الرأسماليين الجشعين جداً. رأسماليون، أقصوا ما تبقى من الرأسماليين الوطنيين (الذين يملكون أموالاً واستثمارات معروفة المصادر) على مدى ثلاثة عقود. رأسماليون، نجحوا باستثمار علاقاتهم بالسلطة (خِطبة وزواجاً وعشقاً)، لكنهم لم ينجحوا حتى في المساهمة بتوفير فرص عمل تبرر لهم، ما يجمعون من مال، وما ينعمون من ثروات. ماذا حدث؟ تحولت مؤسسات عامة، إلى مؤسسات خاصة جداً جداً، وبلغت الخسائر الناجمة عن التهرب الضريبي، وبعض أشكال الفساد، وليس كلها 6 مليارات دولار أميركي سنوياً، واستُثمرت ديون مصر، بأبشع طريقة ممكنة، وبيعت أراض هائلة المساحة بـ "تراب الفلوس"، وضاع النمو الاقتصادي منسلاً إلى جيوب الملوثين الاقتصاديين الجدد، بينما لم تجد الإصلاحات ولو نافذة واحدة للانسلال إلى الساحة الاقتصادية. في نهاية العام 2009 أوردت مؤسسة دولية تُعرف باسم "إيه إم بيست" في تقرير لها، إن مصر أصبحت دولة تعاني من وجود نسبة مخاطر عالية فيها، وأنه لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحدث فيها لاحقاً، ولا يمكن رسم صورة واضحة للمناخ السياسي والاقتصادي فيها. وهو ما يعني أنها صارت دولة تعاني من غياب تام للشفافية، وعدم قدرة الناس على الوصول لمعلومات حقيقية ودقيقة فيها، وهذا كله لا يمكن أن يخلق مناخاً آمناً للاستثمار. وقد ذهب التقرير أبعد من ذلك، عندما توقع إمكانية انهيار الاقتصاد المصري في نهاية العام 2010.

مصر لم تبرح خاطر المصريين أبداً. بل لم تبرح خاطر حتى غير المصريين أيضاً. لكن ما من شك في أنها برحت خاطر أولئك الذين يحبونها فقط، عندما يدوم التواصل بينهم وبين خيراتها. فلا عجب في أن هؤلاء كانوا أول الهاربين منها، عندما اندلعت الاحتجاجات، تماماً مثل الفئران التي تكون أول القافزين من السفينة الغارقة. لقد أثبت بعض المستثمرين الأجانب، حباً أكبر لمصر وولاءً لها، من أولئك المصريين الفارين. فظلوا يحتفظون بأموالهم واستثماراتهم، رغم التحذيرات بتعرضها للمخاطر من جراء استدامة الحالة الاحتجاجية.

حصل المصريون على حريتهم، وكما يقول الأديب الفرنسي ألبير كامو: "الحرية ليست سوى فرصة نحو الأفضل". وأمامهم الآن ما يمكن وصفه بـ "الثورة الاقتصادية"، لأن الحالة الاقتصادية في البلاد تجاوزت مرحلة الإصلاح والترقيع. وعلى العالم الذي بقيت أيديه الخفية –أو المعلنة لا فرق- بعيدة عن التحول التاريخي الذي شهدته مصر، أن يتقدم الآن، لوضع أيديه من أجل إعادة البناء. لقد أربكت الأحداث في مصر الاقتصاد العالمي. صحيح أنها لم تهزه، ولكنها أحدثت خسائر كبيرة، ومخاوف أكبر. وتكفي الإشارة هنا، إلى أنه بمجرد إعلان حسني مبارك تخليه عن رئاسة الجمهورية، قفزت البورصات العالمية نحو الأعلى، وهدأت المخاوف فيما يرتبط بالإمدادات النفطية، وأسرعت المؤسسات الكبرى لتخفيض تكلفة التأمين على الديون الحكومية المصرية، وتلقى الجنيه المصري دفعة "معنوية" هائلة، كان يحتاجها بالفعل. تستطيع مصر أن تعيد بناء اقتصادها، بما يكفل تكافؤ الفرص، وإشراك كل المصريين بالغنائم الناجمة عن النمو، واستئصال السرطان الذي خلفته الأموال الفاسدة والمسروقة، ويكفل أيضاً خارطة طريق واضحة ومحددة للتنمية الاقتصادية الشاملة. فقد كان النظام السابق مجرداً من الرؤى، رغم السنوات الطويلة التي حط فيها رحاله في الحكم، وقد بلغت المصيبة الاقتصادية في مصر حداً، لم يعد النظام قادراً حتى على ممارسة رد الفعل على ما يجري داخلياً وخارجياً.

المصريون يستطيعون تطوير نظام اقتصادي، يشمل كل شيء (الصناعة والزراعة والتجارة)، ويشمل في الوقت نفسه أحقية الناس في العمل والعيش الكريم. نظام يقلل من حجم شريحة أولئك الذين يعيشون على دولار أميركي واحد في اليوم (تصل نسبتهم إلى 40 في المائة)، ويخفض عدد الذين يعملون بنظام "المياومة" البالغين17 مليون إنسان. لقد هللت الولايات المتحدة الأميركية ومعها الاتحاد الأوروبي–بالتدريج- بالتغيير الذي حصل في مصر، إلى درجة أن قال الرئيس الأميركي باراك أوباما: "إن حركة الشباب في مصر ألهمتنا جميعاً". ورغم إيجابية هذا الموقف، إلا أنه لا يقدم شيئاً على الأرض، ولا يوفر آلية لدعم الجهود. الذي يفيد التحول التاريخي الهائل حالياً ، أن يقوم الغرب، بفتح أسواقه أمام المنتجات المصرية، وأن يعقد اتفاقات تضمن أفضلية للصادرات الآتية من مصر. إن هذا يضمن استقراراً اقتصادياً وسياسياً طبيعياً، وليس استقراراً مفروضاً. وكم من أنظمة في هذا العالم، حكمت عقوداً بحجته؟

إن مصر التي في خاطر المصريين، ليست تلك التي تعيش على مساعدات، غالباً ما كان يسرق جلها، ولا تلك التي تعيش دائماً تهديد وقف المساعدات أو المعونات. إنها مصر المحورية والقوية والمؤثرة. إنها مصر التي سجل التاريخ لها، كيف كانت هي التي تمنح المساعدات. إنها مصر بمقدراتها ومكتسباتها الهائلة. إنها مصر التي بقيت شامخة، حتى في ظل نظام لا يليق بها. وما أن تتخلص من الاقتصاد "المُسرطن" أو من السرطان الاقتصادي الذي أَعمل في جسدها، وامتص ما أمكن من دمها، فالطريق أمامها ليس سهلاً، ولكنه بالتأكيد سيكون طريقاً لعدالة تستحقها، ولحلم سيتحقق.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق