الاثنين، 21 فبراير 2011

أشباه الدول والأموال المنهوبة

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"الذي يسند السُلَم للص لا يختلف عنه"
مَثَل ألماني




محمد كركوتــي

يدخل رجل (أو امرأة لا فرق) يرتدي بزلة إيطالية فاخرة جداً، يحمل حقيبة (أو حقائب) سفر جلدية فاخرة جداً، إلى أحد المكاتب الفاخرة جداً، في إحدى "أشباه" الدول المنتشرة حول العالم. يأتي موظف (أو موظفة لا فرق) لا يقل أناقة عن الرجل، يفتح الحقيبة، يحصي ما فيها من أموال مع مساعدين له، يعطي الرجل إشعاراً بهذه الأموال، ويصاحبه إلى حيث تقف سيارته الفارهة، ويتمنى له أوقاتاً سعيدة. المشهد يتكرر على مدار الساعة، لماذا؟ لأن أشباه الدول منتشرة جغرافياً وزمنياً حول الكرة الأرضية، بحيث ما أن تنام دولة منها حتى تستيقظ أخرى. بمعنى آخر أن مجموعة هذه الدول، مثل بريطانيا التي كانت في السابق لا تغيب عنها الشمس. ورغم ذلك، فمع الأموال المسلوبة أو المنهوبة، هناك دائماً معاملة خاصة "للموُدع"، تسمح له بأن يطلب فتح المكاتب المريبة، المرتبطة بالمصارف المشكوك بها، في الأوقات غير الرسمية. بل أن هناك كثير من هذه المكاتب تفضل عمليات الإيداع تحت جنح الظلام، تماماً مثل اللصوص الذين يمثل لهم الليل، الوقت الأكثر مثالية لسرقاتهم، ويمنحهم الغطاء المطلوب للنهب والسلب، ولا بأس من القتل لو استدعى الأمر ذلك.

الأموال في الحقائب الثمينة شكلاً ومحتوى، ليست سوى مغانم لحكام طغاة، يسرقون بلدانهم طالما ظلوا في الحكم، ويخبئون هذه الأموال لأيامهم السوداء. فهم يعرفون أنه لا بقاء لهم على كراسيهم إلى الأبد، وهم متأكدون من أن يوماً سيأتي، سيضطرون فيه للبحث في خارطة العالم، عن ملاذ يقبلهم من دون منغصات، وعن دولة ترضى بهم من غير تهديدات، وأن يعيشوا غارقين بأموال سُرقت غالباً من فقراء، ونُهبت حتماً من محتاجين، واختفت في حسابات معقدة، يصعب على أكبر المحققين وأفطنهم فك خيوطها كاملة. لماذا؟ لأن الغطاء الرسمي لها في أشباه الدول، وحتى في الدول الكاملة، لا يزال يوفر لها شيئاً من الحماية، حتى مع وجود قرارات أصدرتها الدول الكبرى، في أعقاب انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، بملاحقة الأموال الناجمة عن الفساد وسرقة المال العام، لاسيما في الدول التي تحكمها أنظمة أقرب إلى العصابات منها إلى أنظمة حكم. أنظمة تحتكر المال العام لنفسها، وتسرق منه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. أنظمة تدعي دائماً، أنها لم تسمع أنين جائع، ولا أنات مريض يحتاج إلى دواء، لا للتعافي، ولكن لتسكين الآلام.

أشباه الدول هذه، مرتبطة بصورة مباشرة بدول كبرى، يفترض أنها تقود الحملة الجديدة على أموال الفساد وسرقة المال العام. ورغم وضوح هذا الارتباط، فإن العلاقة بينها وبين الدول الكاملة يشوبها الغموض دائماً، بما في ذلك العلاقة التي تربط –مثلاً- بريطانيا بكل من جزر الكايمان وبرمودا وجزر العذراء البريطانية وجزر تركس وكايكوس وجبل طارق وجيرسي. وهذه الأقاليم أو التابعيات –إن صحت التسمية- تستقطب أكبر قدر من الأموال المسروقة من الشعوب، بالإضافة طبعاً إلى أموال الناجمة عن الجريمة المنظمة والمخدرات والاتجار بالبشر والسلاح غير الشرعي. وطبقاً لكتاب صدر حديثاً بعنوان "الملاذات الضريبية والرجال الذين سرقوا العالم"، للمؤلف نيكولاس شاكسون، فإن لندن تلعب دوراً كبيراً في ماذا؟ في إخفاء ثروات العصابات والسياسيين الفاسدين! وأن شبه دولة مثل جزر الكايمان (يتم تعيين الحاكم فيها من قبل الملكة البريطانية اليزبت الثانية)، تعتبر خامس أكبر مركز مالي في العالم، وتحتضن 80 ألف شركة مسجلة، وأكثر من ثلاثة أرباع صناديق التحوط المريبة الموجودة في العالم، كما أنها معقل ودائع قيمتها 1.9 تريليون دولار أميركي، أي 4 مرات أكثر مما هو موجود في بنوك نيويورك! ولعل من المفيد الإشارة هنا، إلى أن عالم "الأوفشور" في الدول أو المناطق أو الأقاليم الهجينة، منتشر في كل مكان حول الكرة الأرضية، إلى درجة أن نصف تجارة العالم تمر من خلاله، والغالبية العظمى من هذه التجارة، تكون في الواقع على الورق!

لم يجد الطغاة الذين حكموا –ويحكمون- بلداناً مختلفة في هذا العالم، سوى أشباه الدول لتأمين مسروقاتهم، ولا بأس ببعض الدول الأخرى التي كانت تدعي النزاهة، أو في أحسن الأحوال، عدم المعرفة بوجود هذه الأموال السليبة في مصارفها ومؤسساتها المالية. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن جهات غربية رسمية (أميركية وأوروبية) اعترفت في العام الماضي، بأن بعض المصارف الكبرى في الدول الغربية، أنقذت نفسها من الانهيار، بماذا؟ بالأموال المسروقة من أصحابها، بالإضافة طبعاً إلى أموال المخدرات، وغيرها من السيولة المالية المشينة. ولأن الأموال المنهوبة تكاثرت في العقود الماضية –ولا تزال- مع تكاثر الأنظمة الاستبدادية وتوالد طغاتها، فقد قام المسؤولون المتعاقبون في أشباه الدول، بهدم المنازل القديمة فيها ومتاجر الهدايا والتذكارات التي تبيع للسياح منتجاتها، ومحال التجارة التقليدية البسيطة، والاستعاضة عنها بالمصارف ومجمعات المكاتب الفاخرة، بالإضافة طبعاً إلى الحانات وأماكن الدعارة، لكي يكتمل المشهد. فالأموال المسروقة هائلة، ولابد أن يتوفر لها أرضية لاستيعابها.

المصيبة أن الأموال المشينة، تُستثمر في الدول الكبرى، وتدخل إليها بطرق مختلفة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يتبرأ المسؤولون منها، أو أن يُبعدوا أنفسهم عن التلوث بها. فالجميع يعلم أن كميات هائلة من هذه الأموال تحديداً، تدخل في صلب تعاملات أسواق المال الكبرى، وفي مقدمتها سوق لندن. ويقول نيكولاس شاكسون في كتابه الجديد: "في الربع الثاني من عام 2009، تلقت بريطانيا تمويلاً صافياً قدره 332.5 مليار دولار أميركي، من ثلاث تابعيات للتاج البريطاني فقط". ويمضي كاشفاً "أن التابعية البريطانية –شبه دولة- جيرسي تروج لنفسها بصفتها مركزاً مالياً عالمياً، وتقول عن نفسها: إنها تمثل جيرسي امتداداً لحي المال في لندن"! وعلينا أن نتخيل حجم الأموال المشكوك في مصادرها، التي تتدفق إلى لندن من بقية التابعيات.

لابد من الاعتراف بأن الأمور تغيرت في العامين الماضيين، فيما يرتبط بأموال الفساد، أو مسروقات الحكام السابقين. وقد صدرت مجموعة من القوانين الدولية التي تصب في مصلحة أصحاب الأموال الحقيقيين. وباستثناء الخطوة السويسرية السريعة لتجميد أموال وأصول الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، فقد جاءت الخطوات الغربية الأخرى متقاعسة أو متهادية. نحن نعلم أن سويسرا أرادت من خطوتها السريعة هذه، أن تبرهن أنها لم تعد ملاذاً آمناً للسارقين الكبار، بغية الحصول على تعاطف دولي معها، لكن تردد بقية الدول، يطرح علامات استفهام كبيرة، لاسيما موقف بريطانيا المتأني كثيراً، إلى درجة دفعت قادة حزب العمال البريطاني المعارض، بل ونواب من حزب الأحرار المشارك في الحكومة، إلى توجيه اتهامات لها بالتقاعس في قضية، ستوفر لبريطانيا تعاطفاً مطلوباً لها عند الشعب المصري، والشعوب الأخرى التي عاشت وتعيش في ظل أنظمة مشابهة.

إن العالم لم يعد يحتمل أشباه قرارات، ولا أشباه دول تمارس النشاط المالي، بسلوكيات "قُطاع الطرق".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق