الثلاثاء، 30 مارس 2010

تقارير دولية بلا معنى؟!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










" الرجل الجائع.. ليس حراً"
سفير الولايات المتحدة الأسبق إلى الأمم المتحدة أدلي ستيفنسون

محمد كركوتــي

 لم تعد تقارير وبحوث ودراسات وإحصائيات المؤسسات الدولية الكبرى ( الأمم المتحدة ومنظماتها، والبنك وصندوق النقد الدوليين، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والاتحاد الأوروبي ومنظماته.. إلخ)، تمثل صدمة في أرقامها، ولا خوفًا في حقائقها، ولا إنذارًا في استنتاجاتها. بل لم تعد تشكل وقعًا، حتى إعلاميًا!. فقد تحولت من فرط غياب الجدية في التعامل مع حقائقها( بل وتجاهلها) إلى ما يشبه البيانات التي تصدرها حكومات في دول، لا تسمع إلا صوتها، مهما كان نشازًا. وعلى الرغم من أن كل تقرير عن التنمية والبشر والبطالة والمرض والجوع والعطش والطفولة والتعليم، يحتوي على كارثة إنسانية كاملة ( تماما مثل الجريمة الكاملة)، إلا أنه يظهر ويمضي عابراً، لكنه يترك آثارًا مريعة على أرض الواقع، لا في محيط الوجدان. فصاحب القرار الدولي، مشغول بشيء ما، ولو استطاع، لكتب على جبينه لافتة " نرجو عدم الإزعاج"!. لكنه في الواقع، ليس بحاجة إلى مثل هذه اللافتة. فهو إن قرأ التقرير المريع، يضعه في أسفل كومة الأوراق (الأولويات). وليس مهمًا إن كان هذا التقرير على رأس تلة الأوراق، إذا لم يقرأه أصلاً. فالمادة التي لم تُقرأ، مثل المادة التي لم تُكتب!.

ولأن الأمر كذلك، فلا معنى لإحصاء منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، بوصول عدد الجياع في العالم إلى 1,02 مليار بشري، ولا قيمة لما أصدره مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، بأن هناك 1000 مليون شخص في العالم، لا يحصلون على مياه شرب نظيفة، وأن مليون طفل يموت سنويا بسبب المياه الملوثة. ولا وزن لما أعلنته منظمة الصحة العالمية، بأن نصف المرضى في مستشفيات الدول النامية يموتون بسبب تلوث المياه، وأن عدد الوفيات الأطفال دون سن الخامسة في الدول نفسها، بلغ في العام 2008 قرابة 8,8 مليون طفل. ولا أهمية لأرقام منظمة العمل الدولية، التي أحصت 162 مليون طفل عامل في العالم، وأن أكثر من 633 مليون عامل ( بالغ ) يعيشون مع عائلاتهم على أقل من 1.25 دولار أميركي!. ولذلك فقضية وجود 37 في المائة من سكان العالم بدون مرافق صحية جيدة، تبدو مسألة تافهة!، وعدم التحاق أعداد هائلة من الأطفال في المدارس، هو شيء من الكماليات!.

كل تقرير تصدره المؤسسات الدولية الكبرى، يتطلب التزامًا من الدول الكبرى قبل الدول الصغرى. وكل حقيقة مريعة، تستوجب "هَبَة" كبرى توازي في قوتها حقيقة المخاطر. لكن الالتزامات تبددت، والإرادة تزعزعت، وكأن توالد المآسي، يخص المنكوبين فقط، في عالم متشابك، لا توجد قوة على وجه الأرض يمكنها أن تفك تشابكه. ألم تقدم الأزمة الاقتصادية العالمية، الدليل التاريخي الأقوى على "تراص التشابك"؟. ألم تربط بين قوي كان لا يقهر، وضعيف يعيش قهرًا؟. ألم تأتي بحقيقة، أن الحدود لم تعد تلك التي تحدد مساحة هذا البلد أو ذاك؟ بل هي تلك التي المرسومة على محيط الكرة الأرضية كلها؟.

نعرف أن الجميع يعاني من أزمة الأزمات. ونعرف أن الأولويات الوطنية تمثل ضرورة حتمية لحكومات الدول الكبرى. ونعرف أن هذه الحكومات تسعى إلى فرص انتخابية أخرى. ونعرف أنها تواجه مصاعب جمة. ونعرف أن بعضها يسعى إلى إعادة هيكلة اقتصاداته. ونعرف أن ديون بعضها المحلية يفوق دخلها المحلي. لكننا نعرف أيضًا، أن مسؤولياتها الدولية، هي ضرورة حتمية أيضاً، إلا إذا أرادت أن تتخلى عن مكانتها العالمية، وتنضم إلى مجموعة الدول المتلقية للقرار العالمي، لا صانعته. فمسؤوليات الكبير ليست كمسؤوليات الصغير. الأولى دولية عامة والثانية محلية خاصة. الأولى لها مرددوها التاريخي العالمي الكبير، والثانية لها مردود وطني صغير.

التقرير الأخير الذي أصدرته الأمم المتحدة مؤخراً، حمل عنوانًا مليئًا بالدلالات. عنوان مشين للدول الكبرى هو " الوفاء بالوعد". أرادت المنظمة الدولية أن تُذكِر من وَعدوا بوعودهم. أرادت أن تقول لهم : "نرجو قراءة هذا التقرير، ونرجو عدم رميه في سلة المهملات، أو في ملفات التأجيل. نعرف أنكم في أزمة، لكن القضايا المطروحة في تقريرنا، تفوق أزماتكم خطورة، وتحمل معها تفجيرا نوويًا بشريًا عالمياً". أرادت الأمم المتحدة القول : "رجاءً ضعونا ضمن أولوياتكم. فهذه القضايا، هي قضاياكم أيضاً. إنها تحوم في الأرجاء، قبل أزماتكم وخلالها وبعدها". هذا التقرير -الذي بلاشك سيتم وضعه في الملفات فقط – تضمن اعترافاً بحدوث تقدم في المجال الإنساني سابقاً. أي أنه لم يتناول فقط الجانب المأساوي، ولم يطرح الأرقام المشينة، ويتغاضى عن غير المشينة منها. بل تناول ما للكبار وما عليهم. لكن المشكلة أن التردي في الحياة البشرية، فاق التقدم فيها، ومسحت السلبيات الهائلة المفجعة، الإيجابيات الصغيرة الجميلة. لماذا؟ لأن الجهود التي بُذلت لتخفيف الآلام والأوجاع ودفع التنمية ( بصورتها الشاملة) خطوات إلى الأمام، لم تكن مستدامة، ولم تكن على قدر الكارثة. كانت في كثير من الأحيان، جهود موسمية، وفي أحيان أخرى ارتجالية. وفي بعض الأوقات كانت عاطفية حافلة بالدموع، تقدم مشهدًا درامياً مؤثراً في وقته، سرعان ما يصبح ذكريات!.

لقد تراجع كل شيء في السنوات القليلة الماضية ( أي قبل الأزمة العالمية) باتجاه الدول النامية. المساعدات من الدول المانحة الكبرى، ومعها الاستثمارات الأجنبية، والمخصصات التي اعتُمدت من أجل خفض مستويات الفقر وشح المياه والبطالة وتشغيل الأطفال والوفيات والأوبئة والأمية. كانت الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، لا تؤمن بزيادة مساعداتها للدول الفقيرة وتطوير فعالية هذه المساعدات. ومن أجل ذلك تراجعت في ظل هذه الإدارة من المركز الأول على قائمة الدول المانحة، إلى الرابع!. لا غرابة هنا. فهذه الإدارة وقفت بقوة ضد تعميم الضمان الصحي للأميركيين أنفسهم الذين انتخبوها مرتين!. وفي عام 2005 وضعت الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي مخططاً لزيادة المساعدات الإنمائية بشكل تدريجي، يتم بموجبه تخصيص 0.51 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي لمساعدة الدول النامية حتى عام 2010 ، على أن ترفع تلك القيمة إلى 0.7 بالمائة بحلول عام 2015 . لكن النتائج لم ترق إلى مستوى التعهدات. لا مجال هنا للحديث عن " مشاريع الألفية" التي أطلقتها الأمم المتحدة قبل حلول الألفية الحالية، من أجل الحد من تصدع الحياة البشرية في الدول الفقيرة. فهذه المشاريع لم تحقق أهدافها، وإن حققت بعض القفزات المتواضعة.

الجوع ، المرض، الفقر، الأمية ، البطالة، كلها عناوين تصبغ المشهد الراهن والمقبل أيضاً. فالجائع – كما يقول المؤلف الإغريقي أرستوفانيس – لا صديق له إلا مُطعِمه، وكذلك المريض لا صديق له إلا طبيبه، والفقير إلا مُحسِنه، والأمي إلا مُعلِمه، والعاطل إلا مُشغِله. والتقارير الدولية المريعة التي تعج بالهموم، لن تكون سوى سجلات لمصائب، ليست باقية فحسب، بل متعاظمة إلى حد الدمار الشامل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق