الثلاثاء، 9 مارس 2010

صناعة الكتاب العربي.. حروف بلا نقط!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







" ينبغي أن لا نُدرِس الكتب العظيمة.. علينا أن نُعلِم حب القراءة "
عالم النفس الأميركي بورهوس سكينر


محمد كركوتــي

تبدو مشاكل صناعة الكتاب في العالم العربي، مثل مصائب البيئة في العالم أجمع. فالأولى مطروحة على الساحة كمعضلة، والثانية كذلك. الأولى تبدو أنها تقترب – بعِسرها – من عثرات القضية الفلسطينية، والثانية كذلك!. الأولى تبدو بلا حل، والثانية كذلك. الاثنتان تنشران مشاعر الإحباط في الأجواء، وكأن أحدا لم يدرك سرهما أو مكامن المشاكل، وبالتالي مفاتيح الحلول. ولكن هل صناعة الكتاب العربي حقيقةً بهذه الصورة؟. أم أن هناك مبالغة في طرح مشاكلها ومنغصاتها وتعثرها، بل وتخلفها؟. هل تستحق مشاكلها توصيف " المعضلة"؟ أم أن هناك خلل في فهم هذه المشاكل؟. هل يمكن لصانعي الكتاب (الناشرين) التركيز فقط على مشكلة تواضع الحماية الفكرية في العالم العربي، وارتفاع قوتها في أماكن أخرى، دون الأخذ في الاعتبار المعايير والمعطيات المتوالدة على ساحة النشر العربية والعالمية؟. تلك المعطيات التي دفعت أكبر وأعرق دور نشر في العالم للتناغم معها، طواعية أو قسرا، وجعلتها أكثر مرونة في أساليب وسياسات وأدوات النشر نفسها. فهي تعلم أن بريق الكتاب – إن وجد- ليس أبدياً، إذا بقي بعيدا عن مخرجاته. فهو نتاج صناعة، بات التجديد فيها العامل الأهم على الصعيد الفني، وقبل ذلك على صعيد المحتوى. والمؤرخة الأميركية باربرا توكهام اقتربت كثيرا من توصيف الكتاب كمُنتَج حضاري بقيمة إنسانية فائقة، حين قالت :" إن الكتب هي إنسانية مطبوعة".

إن مشاكل صناعة الكتاب، ليست حكرا على العالم العربي. والجانب الذي احتكره العرب في هذا المجال، هو أنهم أضاعوا – أو لم يجدوا – آليات الحل، ولا "الأسلحة" الهجومية التي تساعدهم في التوصل إلى حلول، تُنقذ الكتاب وناشره.. وقارئه أيضا. فلا يزالون متمسكين بضرورة تقوية الحماية الفكرية، دون التعاطي مع تردي أوضاع النشر بصورة عامة على الساحة العربية، وأسباب هذا التردي! ودون البحث في تطوير المُنتَج، بما يكفل له الاستدامة والاستمرارية والاستقطاب، ودون إخراجه من وضعيته الموسمية!. فالمعارض – على أهميتها وضرورتها – ليست المكان الأمثل لمُنتَج طُبع للقراءة.. لا للمشاهدة، ولا للعرض!. والحق أن افتتاحية "الاقتصادية" في السادس والعشرين من الشهر الماضي بعنوان "اقتصاد الكتاب ومعارض الناشرين"، لخصت الحالة العامة للكتاب وصناعته في العالم العربي، ووضعت "النقط على الحروف" لوضعية النشر، وحمَلت الناشرين – بحيادية - مسؤولية ما يجري في هذا القطاع، المتداخل بين التجارة والثقافة، وبين الاستثمار والكلمة، وبين الأعمال والفكر، وبين الاقتصاد والمطبعة.

لقد أدركت البلدان المتقدمة مبكرا حقيقة التحولات التاريخية – وأحيانا الجذرية – في عالم صناعة الكتاب، وخرجت من القوالب التقليدية للنشر، الأمر الذي وفر حصانة قوية لدور النشر المختلفة، بالإضافة طبعا إلى عاملين اثنين. الأول: تمتع سكان هذه البلدان بالقدرة الشرائية، مقارنة بغيرهم من سكان البلدان النامية ( والعربية منها بالطبع). والثاني: أن الكتاب – كمُنتَج - استقطب شرائح مُتلقية له – ظن البعض – أنها خارج نطاقه، لاسيما شرائح المراهقين والشباب بشكل عام. ولمواجهة التراجع في معدلات القراءة في الدول المقدمة – الراشدة، قدم الناشرون مئات الآلاف من العناوين التي تدعو لـ "المواكَبة"، لا للملل. عناوين تساهم في التأسيس المتواصل لثقافة الكتاب الجديد المتجدد، لا الجديد فقط. عناوين "تستدرج" – لبعض الوقت - الطفل القابع أمام كومبيوتره الشخصي، من عالم الـ "تشات" Chat الواسع والمليء بالجيد والسيئ، إلى كتاب يقترب إلى حد ما من الجو الآسر للـ " تشات"، وغيرها من "مستقطبات" الإنترنت. باختصار.. قدموا عناوين "قُولِبت" وفق المتغيرات الكاسحة، موضوعيًا وفنيًا وتقنيًا. ومن المشاكل الرئيسية، أن العرب يناقشون أزمة صناعة الكتاب والنشر، طبقا لزمانهم، في الوقت الذي يطوي زمان أجيالهم القادمة زمانهم!. فهم يعرضون معاناتهم الآنية في هذا المجال، دون النظر لمعاناة مستقبل مجتمع آت بسرعة مذهلة! بات تجاهله نوع من أنواع الانتحار!.

إن القضية في العالم العربي لا تكمن فقط في مسألة الحماية الفكرية. هذه الأخيرة ضرورية لا أحد تستطيع التقليل من أهميتها، وهي جزء أصيل من الحضارة الإنسانية والأخلاق، وتستوجب صيانتها بأشد الأدوات الرادعة، وآليات العقاب. القضية هي كل كامل شامل لكل عناصر النشر وصناعة الكتاب. هي نتيجة جمع: المحتوى والتقنية والتوزيع واللوجستية، ودعم القطاعين العام والخاص، والتحولات الهائلة في عالم القراءة، وبالطبع الحماية الفكرية. فعلى سبيل المثال، لم يعد الكتاب الرخيص، حلا – أو مشروع حل – لأزمة القراءة في البلدان العربية، وإن كان من الضرورات للتخفيف من حدتها. ولم تعد "مشروعات القراءة للجميع" أو "الكتاب للجميع"، حلاً أوحداً للأزمة. الحل ينطوي على فهم مستنير لعقول المتلقين، وإدراك واضح المعالم لمستقبل القراءة، ليس من زاوية النشر، بل من جهة محاكاة هذه العقول.

في زحمة تسيُد الإنترنت – ومنتجاتها - للمشهد الثقافي والاجتماعي والتعليمي، ما زالت بريطانيا تُصدر 206 ألف عنوان في العام الواحد، والولايات المتحدة الأميركية تُصدر 172 ألف عنوان، والصين قرابة الـ 100 ألف، وألمانيا أكثر من 71 ألف، واسبانيا أكثر من 46 ألف عنوان. طبعا ليس هناك وجها للمقارنة في النشر، بين هذه البلدان وغيرها من البلدان العربية، لأننا بذلك نظلم الأخيرة. لكن حركة النشر في البلدان المتقدمة، واصلت النمو حتى في أوج هجمة الإنترنت وما يرتبط بها من إنتاج إعلامي – فكري. ففي عز الأزمة الاقتصادية العالمية، بلغت عوائد صناعة الكتاب في الولايات المتحدة، حسب مؤسسة " اتجاهات صناعة الكتاب" الأميركية، 40,32 مليار دولار أميركي، في العام 2008 مرتفعة 1 في المائة مقارنة بالعام 2007. وتعزيزا للقراءة، تعتمد بريطانيا – على سبيل المثال- نظاما حضارياً متطوراً في قطاع النشر، عن طريق إعفاء الكتب من الضرائب، ومن ضريبة القيمة المضافة. أي أن الحكومة في بلد يعتمد النظام الرأسمالي – لا الشيوعي أو الاشتراكي – خبرت أهمية الكتاب، كرافد من روافد التثقيف والمعرفة، باعتمادها سياسة التسهيل في وصول الكتاب إلى أكبر شريحة ممكنة من المجتمع.

هناك الكثير من المهام أمام صناعة النشر في العالم العربي، والكثير من الثغرات في كيفية التعاطي مع الأزمات التي تواجهها. من بينها الاهتمام بما أصبح واقعاً في هذه الصناعة، وهو الكتاب الإلكتروني، الذي أخذ مكاناً متعاظما على الساحة، ويحتاج إلى وقفة معمقة من جانب الناشرين العرب، وأيضا المؤسسات الحكومية والخاصة. هذا الكتاب هو الوحيد الذي يمكن أن يعالج الجانب المظلم في موضوع القراءة عند المراهقين والشباب، ويمكن أن يساهم في جلب هؤلاء إلى قراءة مفيدة يمكن التأسيس عليها على الصعيد الفكري. لست ضد الكتاب التقليدي، بدفتيه وأوراقه ورائحته، ولكني مع الكِتاب للجميع وخاصة الكِتاب للشباب. السؤال الأهم هو ، كيف يمكن أن نجعله بين أيديهم؟. ونحاول إقناعهم بأن الكتاب، هو الهدية الوحيدة التي يمكن أن تُفتح مرة بعد مرة.

هناك تعليق واحد:

  1. أرقام مثيرة حقا .. شيء عظيم إن كان لايزال في عالمنا اليوم من يحمل كتابا .. بدلا من تلك الحواسيب التي سيطرت على كل شيء .. سعدت بالمقال ..شكرا

    ردحذف