الثلاثاء، 2 مارس 2010

قضية طُرحت من "فرط" أزمة؟!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



" لا شيء يمكن إبداعه من لا شيء"
الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتيوس


محمد كركوتــي

مع انطلاق الأزمة الاقتصادية العالمية، انطلق حديث لم يتوقف على الساحة العربية، يختص بأهلية الإعلام الاقتصادي العربي، في أوقات الأزمات وفي أزمنة الإنفراجات.. في مراحل الركود وفي حقب الازدهار. وارتفعت "حرارة" الحديث بصورة واضحة، مع ارتفاع حمم الأزمة العالمية، وتناثرها في المنطقة العربية، بعد أن عمت المناطق الأخرى من العالم، ولم تترك قطاعا إلا وأشعلته، ولا بابًا إلا وأغلقته، ولا متنفسًا إلا وكتمته!. وإذا كان هذا الحديث ( القضية)، ضروريا من منظور التطور الطبيعي، إلا أنه جاء متأخرا، وأتى كرد فعل على ما حدث ويحدث وسيحدث، ولم يأت كاستحقاق لتنمية هذا القطاع الإعلامي الهام، الذي لا يزال يُنظر إليه، كقطاع مخصص لنخبة الأعمال والأسواق المالية والصفقات التي يسيل لها اللعاب، لا كقطاع مرتبط بصورة مباشرة في "شعبية" المجتمع – إن جاز التعبير - وأدواته ومكنوناته. أي أن طرح القضية، جاء من "فرط" أزمة كبرى، لا من حتمية تطوير مستحق!.

في العام 2007 ( قبل الانفجار الحقيقي المدمر للأزمة العالمية)، كتبت مقالا في "الاقتصادية"، تحت عنوان "الإعلام الاقتصادي العربي.. ذهب المضارب، أين المستهلك؟". قصدت بـ "المضارب"، ذاك الذي انغمس بسوق الأسهم وخرج منها إلى الأبد بعد أن تبخرت أمواله فيها. طرحت وقتها بعض الأسئلة المختصرة (لا كلها المستحَقة) على القائمين على وسائل الإعلام العربية ( لاسيما الفضائيات منها) : ماذا يعني ارتفاع أسعار الحبوب بالنسبة لمحدودي الدخل؟. وما هي انعكاسات ارتفاع أسعار النفط على ميزانية الأسرة؟ وكيف يؤثر تقاضي محلات الـ "سوبر ماركت" رسوما على الأكياس البلاستيكية التي تُمنح عادة مجانا، على إنفاق الأسرة؟. إلى أي مدى يمكن للأسرة الاستفادة من عمليات التدوير الخاصة بالحفاظ على البيئة؟. ماذا يعني ارتفاع أسعار الفائدة بالنسبة لساكني المنازل التي يملكونها عبر الرهن العقاري؟. كيف تتأثر المحفظة المالية المنزلية من تراجع قيمة صرف الدولار الأمريكي؟. كيف يمكن إدارة هذه المحفظة بصورة تمكن رب ( ربة) الأسرة من الاستمرار في توفير متطلبات منزله؟. وما انعكاسات التضخم - سواء المستورَد أو المحلي - على القيام بالإجازة السنوية العادية لمحدودي الدخل؟. وإذا كنا نتحدث عن التضخم، هل يضرب في الصميم لفترة طويلة؟. أم أنه حالة استثنائية؟. ما فوائد تعويم العملة على الراتب الشهري؟. كيف يؤثر التعليم الخاص على ميزانية الأسرة؟. هذه نماذج قليلة جدا من أسئلة كثيرة توجه بصورة يومية من المستهلك في العالم العربي، إلى نفسه أولا، وإلى المحيطين به، بل إن هذه الأسئلة باتت تصبغ النقاشات الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها. فلا يمكن الاستمتاع المُطْلق بمباراة رياضية حماسية، ولا بمسرحية كوميدية، ولا بفيلم مثير، ولا بمسلسل آسر، من قبل شخص يفكر فيما إذا كان ما تبقى من مرتبه يكفي حتى نهاية الشهر؟!.

تتحمل القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية المسؤولية الأكبر في القصور الإعلامي الاقتصادي العربي. لماذا؟، لأن أدواتها قفزت بمساحات شاسعة ( من حيث الاستقطاب الشعبي) فوق "زميلاتها" التقليدية من المطبوعات على اختلاف هوياتها وأشكالها. ولأن الأمر كذلك، فقد أخذت (الفضائيات والإذاعات) الحصة الأعظم من الانتقادات والهجوم، ليس فقط لأنها لم تقدم مادة تحاكي الأزمة الاقتصادية بمقدماتها وتبعاتها وآثارها وكوارثها، بل لأنها كانت بعيدة عن المادة الاقتصادية الشاملة. المادة التي تجتذب المستثمر والمستهلك، ورجل الأعمال وصاحب محل للبقالة، ورئيس أكبر المؤسسات ورب أصغر الأُسر، ورئيس دولة كبرى ورئيس بلدية صغرى. لم تستطع وسائل الإعلام العربية ( المرئية والمسموعة)، أن تجعل "مُتلقيها" متواصلا معها في "فتراتها الاقتصادية" ( برامجها ونشراتها الإخبارية)، بل دفعته إلى العزوف عن متابعتها، ومتابعة هذه الفترات، إلى محطات أو برامج "مفهومة"، ولا أقول مُسلية. وهل هناك أسهل من الانتقال من محطة إلى أخرى؟!.

والحق أن المطبوعات ( رغم الملاحظات على مادتها الاقتصادية) تقدمت في هذا المجال على الفضائيات والإذاعات. والسبب الوحيد لذلك، هو النضوج الذي اكتسبته من جهة الزمن، ومن تراكم التجربة. ولكن هل حُلتَ المشكلة بتقدم هذه الأخيرة؟. وهل استطاعت أن تسد الثغرات؟. الجواب ببساطة: لا!. لأن الأسرة المكونة من خمسة أفراد، يقرأ واحد منهم فقط –إن وُجد - هذه المطبوعة أو تلك، بينما يكتفي الأربعة الآخرون بمتابعة الوسائل المرئية والمسموعة، بالإضافة طبعا إلى الإنترنت وعالمها الواسع. وهذا يعني أن "نضوج" المطبوعات لم يحقق غاياته من حيث المُريدين (المُتلقين)!. والمشكلة لا تتوقف في الواقع عند هذا الحد، بل تستمر لتشمل الفضائيات ( تحديدا) العربية الاقتصادية المتخصصة، التي لم تستطع الوصول هي الأخرى إلى قاعدة واسعة من المشاهدين، لا قبل الأزمة العالمية ولا بعدها، وظلت – منذ نشأتها الحديثة – "نخبوية" في مادتها، و"ضيقة" في أُفقها تجاه السواد الأعظم من المشاهدين!. مع ضرورة الإشارة إلى أنها تعاني – كغيرها من الفضائيات التي تقدم ضمن برامجها منتجات إعلامية اقتصادية- من نقص الكوادر المؤهلة للتعاطي مع هذه المادة الملتصقة بالمشاهد، الذي يمثل في النهاية المجتمع كله، دون الحديث بالطبع عن النقص الهائل في مجال برامج تأهيل الإعلاميين الاقتصاديين في العالم العربي.

إن طرح قضية الإعلام الاقتصادي العربي، يمثل مسألة هامة، سواء جاءت كفعل أو كرد فعل. غير أن هذا النوع من الإعلام، لم يحظ بمبادرات حقيقية وفاعلة، تضعه ضمن نطاق الحراك الخاص بمناقشة الإعلام المرئي أو المسموع. فقد ظل غائبا عن مبادرات، وهامشيا ( جدا) على بعضها. فالبرامج الحوارية والمسلسلات والبرامج الغنائية والإخبارية والوثائقية وغيرها، والفضائيات الثقافية والكوميدية والرياضية والدينية، وحتى فضائيات "قراءة الكف والفنجان والطالع"، تستحوذ على مبادرات الإصلاح والتوعية الإرشادية والبيانية الإعلامية. وإذا كان هناك – على سبيل المثال – عشرة منتديات ومؤتمرات وورشات عمل عربية، تقام في العام الواحد لبحث حراك هذه الفضائيات وبرامجها، لا نجد بينها فعالية واحدة تبحث حراك ( أو جمود أو تقدم أو تراجع) البرامج الاقتصادية في الفضائيات العامة، أو الفضائيات المتخصصة بهذه المادة الحيوية!. فلا يمكن أن يتحقق تقدما ما من جمود، ولا يمكن إنتاج شيء من لاشيء. وإذا كانت الدراما – مثلا – ترتبط بوجدانيات الناس، فإن الاقتصاد ملتصق بحياتهم، ويزداد التصاقا في ظل الأزمات الخاصة والعامة.

لقد أقدم "مهرجان الخليج الحادي عشر للإذاعة والتلفزيون" الذي عقد في البحرين في فبراير/ شباط الماضي، على خطوة ضرورية في هذا المجال، عندما أفسح مكانا ضمن فعالياته للإعلام الاقتصادي، تحت شعار عريض هو "الإعلام الاقتصادي العربي.. ما له وما عليه". وأن تَطرح هذا الموضوع - القضية مؤسسة راسخة في هذا الوقت بالذات، يعني أن مرحلة "التثقيف" الإعلامي الاقتصادي العربي، بدأت بالانطلاق نحو فعالية أكبر، وتحتاج إلى استدامة ومواكبة دورية، إذا ما أُريد لهذا النوع من الإعلام أن يحقق قفزات نوعية على صعيد "منتجاته". نحن نعلم أن أدوات النضوج ( ومعها النجاح بالطبع)، تكمن في الديمومة والخبرة والإصلاح الذاتي المتواصل، ونعلم أيضا أنها لن تُوجد، بمعزل عن الإمكانيات المادية والبشرية وعمليات التأهيل المطلوبة للكوادر. لكننا نعلم أيضا.. وأيضا، أن عناصر النضوج لن تكتمل، من دون مبادرات وفعاليات مساعِدة، توفر "أجود" معايير التوعية والتثقيف والمراجعة والنقد والتقييم وحتى التصنيف.

لا أحد يطالب بوصاية على الإعلام الاقتصادي ووسائله. فالوصاية على الإعلام – بكل أنواعه وأشكاله- هي بمثابة "طلقة" قاتلة موجهة إلى قلبه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نطالب – نحن الإعلاميون تحديدا – بأي نوع من أنواع الوصاية، بل علينا مقاومتها بكل الوسائل. المطلوب ليس أقل من "منتدى مفتوح" غير متقطع، ومبادرات محددة، تساعد هذا القطاع، وتطرح الحقائق كما هي، وتستقطب الأفكار التي تحاكي المستقبل، بعيدا عن "التنظير"، وبعيدا عن محاولات "تَسيُد" المشهد. ويبدو (والعالم العربي في أزمة اقتصادية لا دخل له في تفجرها، لكنه أخذ حصته من لهيبها)، أن الوقت مناسب الآن، لوضع الإعلام الاقتصادي العربي، على خارطة الاهتمامات الإعلامية العربية، لا لأنه حديث عهد، بل لأنه الأكثر قُربَا من الحياة المعيشية اليومية، وأقوى التصاقا بها.

هناك تعليق واحد:

  1. الحقيقة .. اسر بكل مقال لك .. واجد فيه متعة الاكتشاف والمعرفة..
    أما بشأن الإعلام العربي, بما يخص الازمة, فلم تكن جاهزية العاملين والاداريين, بمستوى الازمة الهم باستثناء المحطات المختصة بالسوق وتموجاته ..!! وربما لم تكن الغالبية العظمى "المشاهدين العرب " قد تأثرت بشكل مباشر بوعيها السطحي اقتصاديا بما يخبئه لها القدر ..
    سأنتظر بفارع الصبر مقالك التالي .. شكرا

    ردحذف