الثلاثاء، 16 مارس 2010

النشاز «الموسيقي» الاقتصادي!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«لم يستطع ولن يستطيع أحد الهروب من تبعات خياراته»
الكاتب والمؤلف الأمريكي ألفرد منتابيرت


محمد كركوتــي

أي من هذه المنظمات الدولية التالية نُصدق؟ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية المعروف اختصارا ''أونكتاد''، ومنظمة التجارة العالمية؟ أم صندوق النقد والبنك الدوليين؟ فالمنظمات الثلاث الأولى تعلن – بقوة - أن برامج التحفيز الاقتصادي ودعم القطاع المالي التي أطلقتها حكومات العالم لم تعد ضرورية، ويجب التخلص منها. والمنظمتان الأخريان حذرتا منذ مطلع العام الجاري – حتى الآن – من مغبة وقف برامج التحفيز هذه، لأن ذلك سيؤدي إلى انهيار مزيد من المؤسسات المالية وغير المالية، وسيعطل كل خطوة نحو انتعاش الاقتصاد العالمي! المنظمات الثلاث الأول، ترى أن المشكلة الآن تكمن فيما سمته ''الإجراءات الطارئة'' أو برامج التحفيز، بينما يرى ''البنك والصندوق''، أن الأمل يكمن في استمرارها! وأن التفكير بسحب هذه الإجراءات ليس سوى مصيبة أخرى، تضاف إلى مصائب الأزمة الاقتصادية العالمية.

خمس منظمات دولية عريقة ورصينة، تنشد أغنيتين في وقت واحد وفي ''حفلة'' واحدة بكلمات متضاربة ولحنين مختلفين! ماذا وصل إلى السامعين؟ ''نشاز موسيقي'' يستحيل سماعه، ولا يمكن تجاهله أيضا! ''نشاز'' طغى على ما ينشده المتفائلون، بأن الاقتصاد العالمي خرج من عنق الزجاجة، وأن الانتعاش آخذ في الظهور هنا وهناك، ولا يوجد ما يدعو إلى الخوف! للمتفائلين الأفراد مآربهم، ولا سيما أولئك الذين وُصِموا بعار الأزمة، أو أولئك الذين يسعون إلى مكافأة سياسية، مهما قل شأنها. فهؤلاء إما من بقايا ''المُلهَمين الاقتصاديين''، أو من السياسيين الذين تورطوا مع ''المُلهَمين''، في إخراج المشهد الاقتصادي العالمي المشين. لكن هذا لا ينطبق على منظمات أو مؤسسات عالمية كبرى، لا تخضع لمعايير الربح أو الطفرات أو الفقاعات أو النمو المريض أو اقتصاد الوهم. هي منظمات قامت أساسا لقول الحقيقة، لا لتمويه الواقع، وقامت أيضا، لتكون بمثابة البوصلة التي لا يتجه مؤشرها إلا إلى الجهة الصحيحة، تلك التي يتمركز فيها الصالح العالمي العام. هذه المنظمات ليست كوكالات التصنيف الشهيرة التي ''عملت البحر طحينة''، ومنحت – بتصنيفاتها – شركات ومؤسسات ومصارف الأوسمة المشينة، أو نياشين الهلاك.

لعل كبار المسؤولين في كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، تعلموا من ''مطبات'' تفاؤلهم الذي ''احتضن'' تصريحاتهم ''الوردية'' في النصف الثاني من عام 2009، خصوصا تلك التي تحدثوا فيها عن بداية انتعاش الاقتصاد العالمي! ففي مطلع العام الجاري، صبغوا هذه التصريحات بشيء من الواقعية، وعرفوا أن زمن التفاؤل ليس قريبا، وأن ''وردية التصريحات'' لا تجلب لهم إلا التهكم، بل الاستهزاء بقدراتهم على التنبؤ. لكن يبدو أن هذه الحقيقة لم تصل بعد إلى المسؤولين في المنظمات الدولية الثلاث الأخرى. إن برامج التحفيز الحكومية، هي التي تدير دفة الاقتصاد العالمي حاليا، بعد أن تبخرت الأموال في المؤسسات والمصارف الكبرى، وبعد أن انتهت سمعتها، التي كانت تمثل نوعا من أنواع رأس المال لها. بينما لا تتحمل الحكومات – ولا سيما في الدول الكبرى - سقوطا جديدا لهذه المؤسسة أو تلك، لأن ذلك يشكل خطرا حقيقيا على الاستقرار السياسي والإداري لهذه الحكومات. دون أن ننسى أنها – أي الحكومات – كانت متورطة بصورة أو بأخرى، في ارتكاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وعلى الرغم من العبء المالي الكبير لبرامج التحفيز، إلا أنها تمثل القوة الوحيدة حاليا، لتعويم الاقتصاد العالمي.

نزيف الإفلاس لا يزال يمثل ''وصمة العار'' المتواصلة للأزمة العالمية. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تتوقع السلطات المالية المختصة، أن يصل عدد المصارف والمؤسسات المالية المفلسة إلى ذروته مع نهاية عام 2010. وفي الشهرين الأولين من العام المذكور بلغ عدد المصارف الأمريكية المفلسة 25 مصرفا، بعد أن بلغ عددها في العام الماضي 140 مصرفا، بينما لم تتعرض سوى ثلاثة مصارف فقط للإفلاس في الولايات المتحدة في عام 2007 و25 مصرفا في عام 2008 (عام الكارثة). يحدث هذا في وقت لم تنته فيه الشكوك ولم تخف مشاعر الريبة حيال أداء بورصة وول ستريت، التي يمكن - في أي لحظة – أن ترتكب حماقة جديدة بأزمة جديدة. وفي أوروبا الغارقة في الخوف على اليونان، والمرعوبة من ''جيوش'' العاطلين عن العمل، والخائفة على مستقبل منطقة اليورو، بل العملة نفسها، بلغت خسائر المصارف فيها أكثر من 649 مليار دولار أمريكي، بينما يتوقع البنك المركزي الأوروبي، أن تتعرض لخسائر إضافية تصل إلى 283 مليار دولار بحلول نهاية 2010 ! أما صندوق النقد الدولي، فيقدر حجم خسائر هذه المصارف بأكثر من 900 مليار دولار. فقد شطبت مصارف منطقة اليورو التي تضم 16 دولة 375 مليار دولار من الأصول المتعثرة العام الماضي.

مهلا.. مهلا، لم تتوقف مصائب أوروبا عند هذا الحد. فإلى جانب ''الكارثة اليونانية'' – وربما بعدها البرتغالية والإسبانية – هناك 1700 مليار دولار أمريكي اقترضتها أوروبا الشرقية من مصارف في ''شقيقتها'' الغربية. ويتفق المسؤولون الماليون الأوروبيون، على أن جزءا كبيرا من هذه الأموال تحيق به المخاطر. بمعنى أنه أقرب إلى الديون المعدومة. أي أن مصائب الشرق ''تهل'' على كوارث الغرب في أوروبا، فأين المفر؟! كيف يمكن لأي جهة حاليا أن تدعو (بل أن تفكر)، إلى وقف فوري أو تدريجي لبرامج التحفيز الحكومية؟ هل تستطيع المؤسسات المصابة '' بداء'' العجز المالي أن تواجه استحقاقات الأزمة؟ هل يمكنها أن تتنفس بدون أجهزة ''العناية المركزة'' الحكومية؟ لقد دخلت كل المؤسسات الكبرى والصغرى وما بينها ''غرف العناية''، ولم تقو بعد لنقلها إلى الغرف العادية.

إن ما يُنفذ حاليا، ليس برامج تحفيز، بل برامج إنقاذ. فالتحفيز ينطبق على مؤسسات تمتلك الحد الأدنى من أدوات الحياة، لا مؤسسات فاقدة لآليات الحياة تماما! وفي خضم المشهد الاقتصادي العالمي الراهن، تتداخل حياة المُنقِذ بالمُنقَذ. فلا الأول يستطيع مواصلة العيش بدون الثاني، ولا الثاني يمكنه حتى التنفس من دون الأول. هي علاقة شكلتها الأزمة الاقتصادية العالمية. علاقة لا يحبها الأول، ويمقتها الثاني، لكنها حقيقة واقعة. لن يستطيع العالم أن يتخلى عن برامج التحفيز – الإنقاذ في هذا الوقت، ليس فقط لاستمرار نزيف الإفلاس المؤسساتي، ولا لتعاظم الديون المعدومة، بل أيضا لفشل الدول الكبرى – حتى الآن – في وضع نظام اقتصادي عالمي جديد، يأخذ بعين الاعتبار حقيقة المصائب التي يعيشها العالم أجمع ومسبباتها. يضاف إلى ذلك، عدم وضوح الضوابط الجديدة التي وضعتها بعض حكومات الدول الكبرى، لكبح جماح الأسواق، وخصوصا ''وول ستريت''. فيكفي الإشارة إلى أن رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) بن برنانكي، أعلن صراحة أن السلطات المالية في بلاده تنظر – وربما تحقق – في دور مؤسسات ''وول ستريت'' في تفاقم أزمة مَن؟.. اليونان؟!

ماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة، أن ''عصابة وول ستريت'' لا تزال تتمتع بحراك تدميري، تجعل عمليات الإنقاذ التحفيزية – إن جاز التعبير - ضرورة حتمية حتى إلقاء القبض على كل عناصرها وعملائها، والتخلص نهائيا من مُلهَميها.

هناك تعليق واحد: