الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

"مونديال" الرشاوى!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" لكل رجل سعره"  
مثل شعبي لا تيني



محمد كركوتــي

يستطيع الفاسدون - المرتشون في القطاع العام حول العالم أن يتنفسوا "مادون الصعداء". وبإمكانهم اليوم أن يستريحوا "بعض الشيء" من مشاعر الكراهية الشعبية العامرة تجاههم، بل يمكنهم أن "يحتفلوا"، وأن يُشهدوا العالم أجمع، على أنهم ليسوا الفاسدين الوحيدين في الأرض، وأن "نادي الفساد العالمي" لم يعد محصورا ضمن نطاق "النخبة الحكومية"، أو تلك التي تعمل في الشأن العام. فهؤلاء هم الوحيدون الذين لا يريدون الـ "نخبوية" لناديهم، بل يسعون إلى لصق صفة "العمومية" به، لأن "سوق الرشوة" الناجحة، هي تلك التي تضم أكبر عدد من الفاسدين ( من أفراد وحكومات)، وتحظى بشمولية كل القطاعات. ولأن الأمر كذلك، يصعب وصف الفرحة التي تعم الفاسدين، عندما يتزايد عدد المنضمين إلى ناديهم!. وحتى المحتالين ليسوا مؤهلين للانضمام إلى هذا النوع من النوادي، ولا تنطبق عليهم شروط "العضوية". لماذا؟ لأن المحتال يسرق وغالبا ما يقع في شر أعماله، والفاسد - المرتشي ينهب وغالبا ما يمضي في طريقه، على الرغم من أن قوانين محاربة الفساد والرشوة أشد صرامة ووطأة، من قوانين مكافحة الاحتيال، لكنها مثل أدوية محاربة السرطان، لا تضمن التعافي، ولا توفر الحماية من انتشار المرض الخبيث!. ففي عالم الفاسدين، هناك نوع من الحصانة تشكلت بفعل آلية "تسلسل المتورطين"، في حين أن المحتالين لا يتمتعون بـ "حمائية التسلسل". وهذا يدل على أن غياب الأخلاق (وهو القاسم المشترك بين الفاسدين والمحتالين) لا يوفر حاصلا صحيحا، ولا يجمع بين الطرفين، في كل الأوقات.

الفاسدون - المرتشون إذن.. يتنفسون "ما دون الصعداء". لماذا؟ لأن "مونديال الرشاوى" – نسبة إلى مونديال كرة القدم – يشهد انضمام القطاع الخاص في العالم إلى القطاع العام في هذه "المباريات". وإذا كانت نهائيات مونديال كرة القدم تجري كل أربع سنوات، فإن مباريات "مونديال المرتشين" تجري على مدار الساعة، وفي كل المواسم، وبطلها هو الوحيد في هذا الكون الذي يفر من تسلم كأس "الانتصار"!. فهذا النوع من الانتصارات، يشبه إلى حد بعيد، ذلك الناجم عن إلقاء قنابل مدمرة وفتاكة على دار للعجزة، أو روضة للأطفال، أو مبنى لمستشفى!.

يصل الإنفاق العالمي سنويا على الرشاوى في القطاع الخاص إلى ما بين 20 و40 مليار دولار أميركي. وهذه الأموال الهائلة تزيد تكاليف المشروعات المختلفة – بما في ذلك التنموية منها – بنسبة تصل إلى 10 في المئة، كما أنها تعادل مابين 20 و 40 في المئة، من المساعدات التنموية الرسمية. وماذا تفعل أيضا؟ تلحق أضرارا بالغة بالتجارة والصناعة والتنمية والمستهلك، وكأن المجتمع الدولي يمكنه تحمل مثل هذه الخسائر، خصوصا وهو يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية قاطبة. هذه النتائج المريعة، لم يتوصل إليها أمي يجلس على مقهى في أحد البلدان المتخلفة، بل جاءت في سياق تقرير "منظمة الشفافية العالمية" Transparency International (منظمة غير حكومية معنية بمراقبة ومتابعة الفساد، بما في ذلك الفساد السياسي) للعام 2009 . وعلى الرغم من أن هذه الأموال لا توازي شيئا مقارنة بالرشاوى التي تدفع في كل القطاعات وعلى مختلف المستويات سنويا، وتصل – حسب تقديرات البنك الدولي للعام 2007 – إلى أكثر من 1000 مليار دولار أميركي، إلا أنها تعتبر هائلة، لكونها تنفق في قطاع يفترض أنه يتمتع بأعلى درجات الشفافية والنزاهة. فالدولار "المشين" في القطاع الخاص، يساوي في دلالته ألف دولار "مشين" آخر في القطاع العام، على اعتبار أن السلوك والأداء يفترض أن يكونا مختلفان في كلا القطاعين.

والذي يرفع من حدة الصدمة، أن الإجراءات التي اتخذت ضد المرتشين في مؤسسات القطاع الخاص عالميا، لم تؤد إلى شيء يذكر. ففي استطلاع للمنظمة الدولية نفسها، شمل نحو 73 ألف شخص في 69 بلدا، أقر مدراء عدد من الشركات أنهم لم يتعرضوا إلى عقوبات، على الرغم من افتضاح أمرهم!. بل ربما تلقوا التشجيع من أصحاب الشركات نفسها، لأنهم يعقدون لها الصفقات التي تسيل اللعاب، بصرف النظر عن الأضرار والخسائر التي تصيب هذا المجتمع أو ذاك، من جراء ارتفاع تكاليف المشروعات والأسعار. وكالعادة، فإن الدول النامية تتقدم المراتب في "مونديال الرشاوى"، لأن الفساد في هذه البلدان يعم غالبية المؤسسات الخاصة والعامة، سواء تلك المرتبطة بالثروة الوطنية ومقدرات البلاد، أو تلك المتصلة بالنمو( تُقدر المنظمات غير الحكومية الرشاوى الهاربة من القارة الأفريقية سنويا إلى الملاذات الضريبة الآمنة بنحو 30 مليار دولار أميركي!). ولأن الفساد مثل السرطان، فقد وصل منذ زمن بعيد في هذه البلدان، إلى البرلمانات والأحزاب السياسية. لا مفارقة هنا، لأن الثانية هي التي تشكل الأولى. وعندما يكون الوضع على هذا الشكل، يبدو معه ارتفاع تكاليف المشروعات بنسبة 10 في المئة، مجرد " هفوة"!. مهلا .. مهلا، لقد بلغت حدة الفساد والرشاوى في بلد كالعراق مستوى، دفعت مدير دائرة الصحة في مدينة بابل، إلى وضع كاميرات مراقبة، أين؟ في الأماكن المخصصة لتسليم المواليد الجدد في ثلاثة مستشفيات. لماذا؟ لمنع الرشاوى!. يا إلهي .. يمتنعون عن تسليم المواليد لذويهم إذا لم يحصلوا على الرشاوى!!. فالقضية عززت مرة أخرى "تحالف" الفساد الاقتصادي بالأخلاق المفقودة.

إن مصائب الفساد لا تتوقف عند هذا الحد، بل تدمر أيضا المنافسة الشريفة القائمة على أسس معلومة لا مجهولة أو وهمية، وتنال من الأسعار الطبيعية التي يستحقها المستهلك في العالم أجمع، الآن أكثر من أي وقت مضى، كما أنها تقضي أو تهز من وضعية الكفاءة على الساحة، لأنها تدفع الفاشلين إلى المقدمة. فالأزمة الاقتصادية العالمية، أحدثت حقائق وأتت بمستجدات، بات معها الدولار "المسروق" بمثابة "ثروة" بيضاء للأيام السوداء، ليس فقط للأفراد، بل للدول نفسها. فكيف الحال إذا ما ارتبطت الرشاوى بمشروعات تنموية أو إنسانية أو اجتماعية؟!. ومن المصائب أيضا، أن "صناعة الرشاوى" شهدت ازدهارا كبيرا في أعقاب الأزمة الاقتصادية، بينما كانت إحدى مقدمات الأزمة نفسها، عن طريق الفساد الذي استشرى في مؤسسات التصنيف والتقييم التي ينبغي أن تكون مثالا للحصانة من الرشاوى. فأساس عمل هذه المؤسسات، هو الكشف عن حقيقة الشركات التي لا تلتزم بالقوانين واللوائح المعمول بها، ومن ضمنها بالطبع قوانين محاربة الرشاوى. فإذا كان المصنف – بكسر النون – مرتشي ويقبض " المعلوم"، فلا غرابة إذن، لو كان المصنف – بفتح النون- غارقا في الفساد والرشوة.

لا أحد يتوقع – استنادا إلى استطلاعات وإحصائيات ودراسات على مدى سنوات طويلة – أن يتراجع حجم الإنفاق على الرشاوى. فقد ساهمت مؤسسات التصنيف، بتحويل الكسب غير المشروع، إلى آلية "إنتاجية" واقعية، قامت ببناء واجهات جميلة للخرائب. وسيمضي هذا العام، وسيأتي آخر بعده، وستتواصل الرشاوى بالنمو في كل الاتجاهات والقطاعات، وفي كل القارات، "شقراء" كانت أم "سمراء" أم " صفراء" أم بكل الألوان. ولا يمكن بأي حال من الأحوال وقف هذا التدمير الاقتصادي، من دون إصلاحات كاملة للأنظمة الاقتصادية ككل. صحيح أن قوة لا يمكن أن تنهي "صناعة الرشوة"، ولكن الصحيح أيضا، أنه بالإمكان الحد من آثارها المدمرة. والعالم اليوم يعيش ولادة نظام اقتصادي ومالي جديد – من جراء الأزمة طبعا – يسعى واضعوه لهيكلته وفق أعلى درجات النزاهة والإفصاح والمراقبة، لاسيما في مجالات هروب وانتقال الأموال إلى حسابات لا كشوفات لها، باتجاه ما تبقى من الملاذات السرية. وهذا لوحده يمثل عاملا صارما لكبح جماح الفاسدين والمرتشين، إلا إذا استطاع هؤلاء شراء ما أمكنهم من واضعي هذا النظام. وقتها.. سيصبح العالم بأسره ملاذا آمنا للفساد، ولا غرابة إذا ما سنت قوانين لـ "مكافحة" النزاهة.

هناك تعليق واحد:

  1. منذ بعضا من السنين, بزعت قضية الرشاوي لرئيس بلدية طهران, ابان حكم الرئيس الخاتمي! الأمر ليس بغريب !! لكن الغرابة بالموضوع, أن وسائل الاعلام كشفت البنية التحتية للنظام الايراني آنذاك, واصفة الرشوة بالامر الاعتيادي أو أنه الجزء الروتيني من المعاملات الحكومية وتمريرها, وأن هذاالشكل قد تقبله الشعب بعد أن اعتاد عليه .. إذاً الرشوة في بلد يأخذ شريعنه من القرآن, تعتبر روتينا !
    .. هذا فتح بابا كبيرا امام تلك الفئات لأن تمد يدها ليس تحت الطاولة إنما بمدها أمام الجميع كحق مشروع .. في بلادنا لايمر شيء إلا برشوة .. لاشيء ... حتى بالقضاء. هنيئا لنا . شكرا محمد على هذه تعويم هذه القضاياالبالغة الأهمية ..
    عبر بحثي عن مواضيع للرشوة وجدت مفالا مثيرا, بعنوان جبهة وطنية للدفاع عن الرشوة للكاتب خالد القشطيني في صحيفة الشرق الاوسط ذكرته فقط للعنوان ولايتسع المجال للخوض فيما جاء به .وشكرا

    ردحذف