الثلاثاء، 27 يناير 2015

التنويع .. وقود الاقتصاد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أساس الاقتصاد القوي لا يقوم على قرارات وزير المالية وبرنامج الإنفاق الحكومي»
جورج أوزبورن وزير مالية بريطانيا


كتب: محمد كركوتـــي

لا يحتاج الخطأ (أي خطأ) لأزمة كي يتم إصلاحه. كما لا تحتاج أي حالة مهما تفاقمت إلى أي شكل من أشكال الأزمة أو الضرر لإدخال إصلاحات محورية عليها. في الأزمات تكمن الفرص (بصرف النظر عن أشكالها)، ولكنها لا توفر أدوات فاعلة أو مطلوبة لإنهائها وأولئك الذين يعتقدون غير ذلك، هم في الواقع يسعون إلى تبرير الخطأ ومرتكبه، ويحاولون (بحسن أو سوء نيات) توفير حماية ما للجهة أو الجهات التي تقف وراء هذا الخطأ، لا أزال أتذكر مقولة ساذجة ومروعة في آن معا للممثل المصري محمد صبحي، خلال لقائه بطاغية العراق السابق صدام حسين في أعقاب العقوبات التي فرضت على العراق. ماذا قال لهذا الأخير؟ "سيدي الرئيس، علينا أن نشكر العقوبات لأنها تحض على العمل المحلي والإنتاج"! مثل هذا الكلام، ليس أقل من مبرر للخراب والمخرب.
القضية المطروحة الآن لا تتعلق بصدام ولا صبحي، إنها خاصة بالبلدان النفطية (لا على وجه الخصوص) التي لا تزال تفكر في تنويع اقتصاداتها أو أنها تسير نحو التنويع بعربة بلا محرك. فتراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية خلال أقل من ستة أشهر ما بين 40 و50 في المائة لم يكن ضروريا لكي تعرف هذه البلدان أنها تأخرت بل إنها تعيش باقتصاداتها فيها من المخاطر أكثر مما فيها من المكامن الآمنة. إن المسألة واضحة منذ عشرات السنين. فإما اقتصاد أكثر تنوعا أو الارتهان إلى "مزاج" السوق النفطية وألاعيبها والسوق وإن شكلت المحور الأول للاقتصاد إلا أنها تخضع لمعايير متغيرة غير ثابتة. بل حتى الممارسات غير الأخلاقية وعلى هذا الأساس لا يمكن الاستناد عليها (بمفردها) كرافد مستدام بوتيرته لحماية الاقتصادات الوطنية المختلفة. ويكون الأمر مفجعا عندما تكون أحادية السلعة.
البدهيات لا تحتاج إلى أزمات أو حتى تفسيرات وشروحات والاعتماد على السلعة الواحدة يعني إبقاء الأمة أسرى لها، يقول هنري روس رجل الأعمال والمرشح السابق للرئاسة في الولايات المتحدة: "العملة الضعيفة تكون مؤشرا لاقتصاد ضعيف والاقتصاد الضعيف يقود إلى أمة ضعيفة" ويمكن ببساطة المقاربة هنا بالقول "السلعة الوحيدة لا توفر اقتصادا قويا وبالتالي لا تجعل الأمة قوية" والأمم الكبرى القوية هي كذلك بقوتها الاقتصادية وليست العسكرية، هذه روسيا بترسانتها العسكرية الهائلة تئن تحت وطأة تراجع أسعار النفط حتى لو لم تكن تحت العقوبات الغربية الراهنة المفروضة عليها والأمر نفسه (مع اختلاف مكامن القوة العسكرية) في بلدان مثل فنزويلا ونيجيريا وإيران وغيرها وهي في حالة سيئة مضاعفة لأنها تفتقر إلى الفوائض المالية.
ولكن الفوائض المالية التي تنعم بها غالبية بلدان الخليج العربية لا تشكل ضمانات مستدامة هي الأخرى فهذه الفوائض (مهما عظمت) لا بد أن تنتهي طالما أنها تتراجع ولا توجد آليات أخرى للإبقاء على زخمها فهي بلا شك محورية في الأزمات لكنها لا توفر حلولا دائمة لمشكلات الاقتصاد الكلي كما أنها تجمعت نتيجة فورة في أسعار النفط يعتقد البعض أنها انتهت إلى غير رجعة وإذا كان هذا الاعتقاد سلميا فإن الفوائض المشار إليها ستتآكل طالما ظل الرافد النفطي الوحيد للاقتصاد. وليس غريبا (على سبيل المثال) أن تتصدر بورصات البلدان غير النفطية قائمة أفضل الأسواق المالية في 2014 وفقا لوكالة "سي إن إن موني" الأمريكية وفي المقابل لم يكن غريبا تصدر بورصات بعض البلدان النفطية (وفي مقدمتها روسيا) قائمة الأسواق المالية الأسوأ في العام المذكور. في الأفضل كانت الأرجنتين والصين والهند وفي الأسوأ كانت روسيا والكويت.
هناك مشكلات مفصلية تعانيها البلدان النفطية في مجال تنويع اقتصاداتها في مقدمتها التخلص من ذهنية الإنفاق الحكومي والتحذيرات لا تتوقف من جانب المؤسسات المالية الدولية لهذه البلدان بأنها ستواجه مشكلات أعمق فيما لو لم تتقدم بخطوات فاعلة على صعيد إصلاح استراتيجية الإنفاق المتصلة مباشرة بمشاريع الدعم إلى جانب طبعا الارتباك الذي لا يزال موجودا في العلاقة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق وعدم الاستثمار في تطوير الصناعات (في حالة روسيا) فهذه الأخيرة لا تستطيع (مثلا) أن تجعل مصانعها تعمل دون التكنولوجيا الغربية أما بالنسبة للبلدان النفطية الأخرى (وتحديدا الخليجية العربية) فإن عجلة التنويع البطيئة تجعلها في حالة الاستماع فقط لمطالب الحد من الإنفاق الاستهلاكي وخفض الدعم.
صحيح أن بلدان الخليج تمضي قدما نحو تغيير "ثقافتها الاقتصادية" ولكن تداعيات السوق تسير بوتيرة أسرع منها وإذا كان من المرجح ألا يعود سعر برميل النفط إلى مستوى 100 دولار فليس أمام هذه البلدان إلا التحرك بسرعة أكبر نحو التنويع. فحتى الـ80 دولارا للبرميل لا توفر مساحة آمنة. بل يمكن القول حتى 200 دولار للبرميل لا توفر أمانا مستداما لأن المسألة تبقى هي.. هي "الأمان الاقتصادي" يكفله التنويع فقط وثقافة اقتصادية متغيرة بسرعة أيضاً دون خوف.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق