الثلاثاء، 27 يناير 2015

«فاتكا» ليس سياسيا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"الناس جائعون، لأن السلطة تأكل من الضرائب بإفراط"
لاوتزه - فيلسوف صيني

كتب: محمد كركوتـــي

هناك سلسلة من المشكلات المرتبطة بقانون الامتثال الضريبي الأمريكي للحسابات الأجنبية المعروف اختصارا بـ "فاتكا". فهذا القانون يلاحق المتهربين الأمريكيين "وحتى الذين يتمتعون بالإقامة الدائمة الأمريكية" من الضرائب، ولكنه يطرح قضايا أخرى أشد، توازي الضرائب وأحقيتها حساسية، خصوصا في البلدان التي تمنع ازدواج الجنسية، فضلا عن أولئك الذين يتمتعون بالإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، ولكنهم في الواقع لا يعيشون فيها، والآخرين الذين حصلوا عليها أوتوماتيكيا بحكم الولادة. هذا القانون فتح في الواقع كل شيء على كل شيء. يكشف عن الأموال المستورة، والجنسيات المستورة أيضا، وتحديدا في البلدان الأصلية لحامليها. ولكنه في النهاية لا يمثل معيارا للوطنية، بدليل أن الأمريكيين الأصليين يتهربون من الضرائب، وهناك مؤسسات أمريكية بأسماء رنانة إلى الأبد "أبل ومايكروسوفت وغيرهما" تتهرب من الضرائب.
في المملكة بدأ تنفيذ القانون مطلع العام الميلادي الجديد، وفق النموذج الذي اختارته السعودية الذي تم الاتفاق عليه مع الأطراف المعنية. والدول الخليجية الأخرى وافقت على تطبيق القانون بالتعاون مع السلطات الأمريكية، وهناك بلدان في كل أنحاء العالم، امتثلت لقانون "الامتثال"، وذلك خوفا على مؤسساتها المالية والمصرفية من عقوبات أمريكية ستكون فادحة بكل المقاييس. ومن الواضح أن إدارة أوباما، تسعى بكل ما لديها من نشاط وما تبقى لها من زمن في البيت الأبيض، إلى تعميم القانون على جميع بلدان العالم، التي ترتبط معها بعلاقات طبيعية. وقد نجد بعد فترة من الآن، أن كوبا نفسها العدو اللدود للولايات المتحدة، امتثلت للقانون الأمريكي، مع التقارب المتسارع بين واشنطن وهافانا.
راسلني أحد الأصدقاء حول موضوع "فاتكا"، ملمحا بأن هناك بعدا سياسيا لهذا القانون، وهو أولا: "تطفيش" الناس من الحصول على الجنسية الأمريكية، على اعتبار أن أصوات المجنسين الأمريكيين كانت تحمل وزنا في الانتخابات الرئاسية السابقة التي فاز بها باراك أوباما في المرة الأولى. وثانيا- ولا أجد أي رابط سياسي في هذا الأمر- أن اعتماد الدول الغربية على الضرائب ليس جديدا، بل يزداد يوما بعد يوما ويصل إلى أوجه في أزمنة الأزمات. كما أنه يشكل في النهاية "كما هو معروف" حجز الزاوية في الدخل الوطني. وهذا الأمر يدفع إلى تطوير قوانين الضرائب، بل وسن قوانين جديدة، دون أن ننسى أن الأزمة الاقتصادية العالمية، دفعت العالم أجمع للبحث عن مصادر مالية، حتى تلك التي كانت جزءا من أموال عصابات منظمة.
ومن الأسباب الأخرى التي لا تجعل من "فاتكا" سياسيا، أنه تم الاتفاق عليه من قبل الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه أوباما الملون، أكثر من الجمهوريين الذين أشاروا إلى أصوات المجنسين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فضلا عن أنه بدأ تطبيق القانون فعليا في عام 2010، أي بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض بعامين تقريبا. وهناك نقطة أساسية أخرى، أن أغلب المجنسين "وفق الجداول الرسمية الأمريكية" ليسوا من مرتفعي المداخيل، بل إن نسبة كبيرة منهم تعيش على المعونة الحكومية، وهؤلاء لا يشكلون هدفا على الإطلاق لقانون "فاتكا" أو غيره. في الواقع هذه الشريحة تدعم تقليديا قوانين الضرائب المشددة، لأن ذلك سينعكس عليها بصورة إيجابية على صعيد المعونات الحكومية الاجتماعية.
أما بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا التهرب من الضرائب، فهم تقليديا من أصحاب المداخيل المرتفعة جدا، وهؤلاء "أيضا تقليديا" من الناخبين للحزب الجمهوري، على اعتبار أن هذا الأخير أقل فرضا للضرائب، كحال الأحزاب اليمينية الغربية الأخرى التي لا تتعجل فرض ضرائب عالية، بل إن بعض هذه الأحزاب، يخفض الضرائب ضمن برامجها الانتخابية لجذب أصحاب رؤوس الأموال. وهؤلاء اعتادوا على منح الأحزاب اليمينية تبرعات سخية جدا. وفي كل الأحوال، قانون "فاتكا" لم ينطلق سياسيا، ولا يطبق كذلك. فحتى التخلي عن الجنسية الأمريكية لا يتم بقرار واحد ونهائي من حامل الجنسية، الأمر قد يستغرق سنوات، فضلا عن دفع رسوم حكومية تم رفعها في الواقع في الأشهر القليلة الماضية.
يريد أوباما وإدارته أن ينتهوا من تنفيذ هذا القانون بصورة شاملة، لأنهم بذلك يسجلون نقطة تاريخية في مصلحتهم "حسب اعتقادهم"، فهذا الرئيس ركز منذ البداية على القضايا الداخلية في بلاده، ولم يهتم بما يوازي أهمية بلاده بالقضايا الخارجية. وكأنه أراد أن يقول "فهمت استراتيجية سلفي جورج بوش الابن، وأنا أقوم باستراتيجية عكسية". وقوانين الضرائب المحلية وتلك التي لها صلات خارجية، جزء أساسي من القضايا الداخلية. وقانون "فاتكا" الذي شمل أغلب بلدان العالم، بدا مغريا حتى لبلدان غربية أخرى، ولا سيما الأوروبية منها. فهذه الأخيرة تفكر بالفعل في قانون مماثل يستهدف مواطنيها وحاملي جنسياتها، في غضون سنوات قليلة جدا. وقد بدأ المختصون بوضع الخطوط العريضة لقانون جذاب لكل الدول، خصوصا في أوقات الأزمات والمحن الاقتصادية.
الضرائب في البلدان الغربية الراشدة، أكثر أهمية حتى من الصناعات والتجارة. إنها الدخل الوطني المحلي المضمون الذي لا يخضع كثيرا لعوامل خارجية أو حتى داخلية.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق