الثلاثاء، 27 يناير 2015

«التشبيح» في مواجهة العقوبات

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"ليس هناك ضريبة دخل في روسيا، لأنه لا يوجد دخل أصلا"
ويل روجرز - كوميدي أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي

بالطبع، هناك ضرائب دخل في روسيا الآن. وما قاله الكوميدي روجرز بهذا الصدد، كان يخص المرحلة التي كانت فيها الشيوعية بروسيا هي السياسة والاقتصاد والتعليم والمجتمع والفن والأدب، بل حتى الزواج والعلاقات العاطفية والسجائر والخمور. لكن روسيا اليوم، تئن من عقوبات غربية متعاظمة وتطورات اقتصادية عالمية تختص بالدرجة الأولى بوضعية السوق النفطية. لم يستغرق أنين روسيا طويلا كي يظهر بوضوح وبصوت عال، الأمر الذي يطرح سؤالا عن طبيعة معايير الدولة العظمى. لقد أثبتت الأشهر القليلة الماضية، أن روسيا دولة عظمى فقط بما تملكه من سلاح (ولا سيما النووي)، وليست كذلك وفق أي معايير أخرى بما فيها المعايير السياسية. وأي قوة سياسية يتمتع بها هذا البلد حاليا، هي في الواقع آتية نتيجة ضعف السياسة الأمريكية على الساحة الدولية، وتشتت قوة السياسة الغربية بشكل عام نتيجة لهذا الضعف.
وما يقوم به فلاديمير بوتين منذ وصوله الثاني إلى حكم روسيا، ليس إلا "تشبيح" سياسي، وجد البيئة الملائمة عالميا له. وقع هذا الأخير في المصيدة، ليس من فرط قوة العقوبات الغربية التي تفرض عليها تباعا، بل من وهم وضعية الاقتصاد الروسي نفسه. كان الواهمون يعتقدون أن هذا الاقتصاد يمكنه أن يصمد طويلا أمام أي عقوبات، دون أن يطرحوا أي مبررات لهذا الاعتقاد. ولم يعرفوا، أن اقتصادا بمصدرين أو ثلاثة مصادر للدخل، ينكسر بفعل أول عاصفة تمر به، سواء كانت عاتية أو متواضعة. والذي يحب أن يلعب بالاستقرار العالمي وقلب الحقائق، عليه أن يمتلك أدوات فاعلة تكفل له اللعب المستدام، أو اللعب بأطول مدة ممكنة. أراد أن يحتل جزيرة القرم، ويحاصر أوكرانيا، لكن روسيا الآن وبعد أربعة أشهر فقط أصبحت محاصرة اقتصاديا، بل عسكريا أيضا.
كان رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل يقول "إن روسيا لغز ملفوف بالغموض داخل أحجية". كان يراها غامضة، لكنها اليوم مفضوحة، تعرت ذاتيا دون أي عوامل خارجية. يريد بوتين أن يحقق "أمجادا" ما، لكنه سرعان ما وجد نفسه عاجزا حتى عن استعادة النسبة الدنيا من هيبة بلاده. تحول بفعل عقوبات الغرب والتطورات المتلاحقة في السوق النفطية، إلى أكثر من رئيس غرفة تجارة وأقل من وزير اقتصاد. صار مسؤولا مباشرا عن ملفات البنك المركزي والاستثمارات الداخلية، وعن لوائح شركات النفط الروسية. وربما بات يشرف على حركة أرصفة الموانئ التي تنطلق منها الشحنات النفطية إلى الخارج. وأكبر خطوة على مستوى رئيس دولة قام بها بعد العقوبات، أنه حاول (دون نجاح) ابتكار اتفاقات تجارية مع بلد كإيران يعاني الحصار والأنين الاقتصادي أيضا، والصين التي استفاقت "فجأة" على شبح تراجع النمو الاقتصادي فيها. ولا بأس باتفاقات ليست قابلة للتنفيذ الفوري مع الهند أو البرازيل وفنزويلا!
وسط هذا المشهد، تخسر العملة الروسية 65 في المائة من قيمتها، وتهرب أموال من البلاد وصلت في عام واحد إلى 100 مليار دولار، والبنك المركزي يستنزف نفسه بـ 110 مليارات دولار من الاحتياطي النقدي. وماذا أيضا؟ تراجعت عوائد روسيا النفطية بنسبة وصلت إلى 45 في المائة. هذه التطورات الدراماتيكية حدثت في الواقع قبل تغليظ العقوبات الغربية على موسكو. وعلينا أن نتخيل طبيعة المشهد نفسه في العام المقبل، بعد أن تكون هذه العقوبات قد فعلت فعلها بصورة أكبر وأشد وأعنف. حاول بوتين الحريص حتى في هذه المصيبة على إجراء الصيانة الدورية لوجهه "البوتكسي"، أن يغير شيئا ما من الصورة - المشهد، لكنه كان على موعد مؤكد مع الفشل. لم ينفع تسويقه لخفض الضرائب أو حتى إلغائها بالنسبة لبعض مصادر التمويل، في حين لم يقتنع أصحاب رؤوس الأموال بأنه قادر على الصمود وتغيير الأوضاع.
لقد أثبتت الأزمة الروسية الغربية، أن روسيا "نمر اقتصادي ورقي"، وأن "استراتيجية التشبيح" سلاح ذو حد واحد فقط ينال من "الشبيح"، وليس من الجهة المستهدفة بالتشبيح. كما أثبتت أن الاتفاقات المهزوزة مع دول هي نفسها تواجه أزمات، سرعان مع تتحول إلى فقاعات لا ينتبه إليها أحد. عندما اشتدت الأزمة الاقتصادية على روسيا، نشر بوتين أعوانه في الأرجاء للترويج بأن الغرب يريد تغيير النظام الحاكم في روسيا. وهذه في الواقع حجة كل الطغاة الذين عملوا ضد المجتمع الدولي، بل ضد شعوبهم. أراد رئيس روسيا أن يسوق الترويج الخارجي داخليا، تجنبا لتمرد داخلي قد يظهر بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية. إن القوة الاقتصادية الوحيدة، التي يتمتع بها بوتين هي النفط والغاز، لكن هذه القوة باتت تشكل عبئا كبيرا عليه، في ظل تدني عوائدها. روسيا لم تكن دولة عظمى على الإطلاق، وفق المنظور الكلي للدولة العظمى، ربما هي دولة كبرى بحكم حجمها، لكنها ليست كذلك من ناحية عوائدها. لقد سمى سفاح ليبيا السابق معمر القذافي بلاده الجماهيرية العظمى، لكن "جماهيريته" انهارت في أيام.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق