الثلاثاء، 12 فبراير 2013

مصائب كل الأقوام عند المصارف.. فوائد!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«أكره المصارف. لا تقدم شيئاً إيجابياً إلا لنفسها. إنها الأولى دائماً في فرض الرسوم، والأولى أيضاً في الهروب من المسؤولية»
إيرل وورين - قاضي قضاة أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي

ليس أفضل من التزام المؤسسات المعنية بقرارات دولية صدرت من أجل إقرار حقوق (هناك قرارات لا خير فيها أصلاً). فمن مشاكل هذا العالم، أن القرارات العادلة غالباً ما تكون بلا آليات. وإن وجدت (هذه الآليات)، فالراجح أنها معطلة. وإن كانت تعمل، فالأكثر احتمالاً أنها بلا وقود. وإن توافر الوقود بعد معاناة، تصبح الآليات نفسها بلا قيمة! ولعل القرارات الدولية (العادلة مرة أخرى)، التي تنص على عقوبات محددة على الأنظمة أو الأفراد، هي من أكثر القرارات ابتلاء بعدم التنفيذ. وإذا حدث وتم التنفيذ، فلن يكون أكثر من تنفيذ جزئي، غالباً ما يكون لـ ''رفع العتب''، أو هروباً من ملاحقة ما، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الملاحقة نظرية أو عملية. مع ضرورة الإشارة، إلى أن عمليات الاحتيال على العقوبات، تفوق هذه الأخيرة ''جودة'' وحراكاً، وتنشر معها السخرية من أولئك الذين قاموا بفرضها.
ولا يوجد احتيال ومكر وسرية في هذا المجال، لدى كل المؤسسات المعنية أكثر من المصارف الكبيرة والصغيرة. فهذا القطاع متشابك متداخل متشعب، تقف أمامه (في كثير من الأحيان) حكومات كبرى عاجزة عن العثور على آلياته السرية، أو صفقاته المشينة، أو منتجاته القاتلة، أو ألاعيبه الخطيرة، أو سلوكياته المُعيبة، أو حساباته الموبوءة. وإن حدث وتم ضبط جانب من هذه الجوانب، فالمسألة برمتها تنتهي لمصلحة المصارف .. كيف؟ بدفع غرامات، ولا بأس من طرد مسؤول كبير فيها. ولأن العقاب لا يرقى إلى جنس العمل، فالحراك المشين يبقى كما هو، أو يتراجع بعض الشيء، تماشياً مع الظروف الخارجة عن إرادة المتحركين فيه. والحق أن ''مصائب كل الأقوام عند المصارف فوائد''! بما فيها الحكومات نفسها، التي أسهمت في صناعة ''فرانكشتاين مصرفي''، لكنها اكتشفت أنها لا تملك الأدوات للسيطرة عليه!
مع موجات العقوبات الغربية المالية المتلاحقة على نظام سفاح سورية بشار الأسد، ظهر نوع من ''التملق المصرفي'' لدى عدد من المصارف بما فيها الكبرى جداً منها. لا بأس في ''التملق''، إذا ما كان يحقق أهدافاً أخرى لا دخل لها في العقوبات على الأسد. أو بالأحرى أهدافاً تدخل في سياق بعيد متصل. فجأة يعلن مصرف ''إتش إس بي سي'' البريطاني في الإمارات (ثاني أكبر مصرف على مستوى العالم)، أنه طلب من جميع السوريين الذين يملكون حسابات فيه، إغلاق حساباتهم في مدة لا تتجاوز الشهر، والبحث عن مصارف أخرى. لماذا؟ التزاماً بالعقوبات الغربية المفروضة على الأسد ونظامه. يبدو الأمر (للوهلة الأولى) خطوة ''مباركة'' بهذا الشأن، خصوصا أن الحكومات التي فرضت العقوبات تعاني حقاً في مسألة تنفيذها. لكن في الحقيقة، ليست خطوة المصرف المذكور كذلك، لأنها جمعت في الجرائم المالية التي يرتكبها الأسد وأعوانه، بين هذا الأخير، وموظف سوري صغير يعمل في الإمارات، لا يتعدى راتبه الشهري 1500 دولار أمريكي! وهذا المبلغ الصغير يدخل حسابه بصورة دورية لا لبس فيها، من جهة إماراتية لا لبس فيها أيضاً.
لا يمكن وصف هذه الخطوة الغريبة حقاً من جانب مصرف كبير جداً، إلا بأنها ''تملق مصرفي'' – إن جاز التعبير. هذا المصرف أجرى معاملات سرية مع نظام علي خامنئي الإيراني على مدى ست سنوات، فاقت قيمتها 16 مليار دولار أمريكي، ووفر له ما يحلم به من قنوات مالية سرية احتيالية دنيئة، ضارباً كل القوانين العقابية التي فرضتها الحكومات الغربية على إيران، واستفاد حتى نظام الأسد (الذي اتخذ من شعبه كله عدواً له)، من هذه القنوات وغيرها، نتيجة التداخل المالي الاحتيالي بين النظامين في كلا البلدين. لم يجد المصرف المذكور، طريقة أخرى لتملق الحكومات الغربية، في سياق إزالة أدران فضيحته هذه، إلا باستهداف أفراد سوريين، هم أنفسهم من ضحايا الأسد وخرابه. وربما ارتفع عدد العمليات التي قام بها (إتش إس بي سي) لصالح إيران وأعوانها، أكثر من عدد الموظفين السوريين الذين يملكون فيه حسابات مصرفية بسيطة في الإمارات. فحسب وثائق المصرف نفسه، بلغ عدد العمليات السرية المشينة الكبرى أكثر من 25 ألف عملية.
لا نعرف كيف يفكر القائمون على المصارف الكبرى، ولكن الذي نعرفه حقاً النتائج الناجمة عن هذا ''التفكير''، وإن كنا نستطيع (بدون مواربة) أن نصفه بـ ''التفكير المشين''، أو ''التفكير المريض''. والأهم من هذا، ألا تعتبر الحكومات الساعية لتنفيذ عملي للعقوبات المفروضة على الأسد وأعوانه، أن مثل هذه الخطوة، تمثل شكلاً من أشكال التنفيذ. لن يتضرر الموظفون والعمال السوريون من قرار المصرف البريطاني. فهؤلاء سيجدون مصارف أخرى بديلة تقبل بأموالهم الشهرية القليلة الواضحة، لكن الضرر الأكبر، أن يصبح ''التملق المصرفي'' منتجاً مصرفياً جديداً، يضاف إلى منتجات قاتلة سوقتها المصارف على مدى أكثر من عقدين من الزمن. بما في ذلك، حسابات سرية جداً للصوص والناهبين ومبيضي الأموال، وقاتلي شعوبهم، إضافة إلى ''بيع'' الأوهام، وتوفير القروض شرط أن يُثبت المقترض أنه ليس بحاجة للاقتراض!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق