الأربعاء، 20 فبراير 2013

مصر تحتاج إلى الاقتصاد أكثر من السياسة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«نحن مثل امرأة تواجه مصاعب في حملها. علينا أن نعيد بناء الطبقات الاجتماعية في مصر، وأن نغير طبيعة الأشياء الراهنة»
نجيب محفوظ - روائي مصري


كتب: محمد كركوتـــي

كيف سيتلقى (على سبيل المثال) أي مسؤول في صندوق النقد الدولي الذي يوجه كل ''راداراته'' على مصر في الوقت الراهن، ''بلاغة'' تصريح رئيس الوزراء المصري هشام قنديل؟ هذا الأخير قال بالحرف في إحدى مقابلاته التلفزيونية الأخيرة: ''أنا ما أعرفش، بس أنا متأكد.. مع أني كنت شاكك''! أما لماذا قنديل بالتحديد؟ فلأنه المسؤول المباشر عن المفاوضات مع صندوق النقد، التي بدأت تأخذ شكل مفاوضات حل القضية الفلسطينية. وهي مفاوضات يعلق عليها نظام الحكم في مصر آمالاً كبيرة، على الرغم من أن ناتجها (إن تم بالفعل)، ستمتصه فوراً الأزمات الاقتصادية في البلاد. فهذه الأزمات باتت مثل الثقوب السوداء في الكون، تبتلع كل شيء يقترب منها، وكأنه لم يكن. أغلب الظن، أن مسؤول صندوق النقد، سيضيف تصريح قنديل إلى مجمل الفوضى التي يعيشها الحكم، وتكتوي منها مصر كلها. وأياً كان الموضوع الذي علق عليه رئيس الوزراء (حتى لو كان حول الطعمية).. فهو في النهاية ''لا يعرف، لكنه متأكد، رغم أن لديه شكوك''!
الذي يعرفه المصريون والعالم، أن تصنيف مصر الائتماني يقترب بخطوات متسارعة نحو مستوى تصنيف اليونان التي أعلنت العام الماضي إفلاسها رسمياً، وخضعت اقتصادياً إلى الوصاية والمهانة الأوروبية. فقد خفضت وكالة ''موديز'' العالمية تصنيف مصر الائتماني من ''بي 2'' إلى ''بي 3''، مؤكدة أنها ربما تقوم بتخفيض آخر لاحقاً. وخفضت (في طريقها) تصنيف خمسة مصارف، ثلاثة منها مملوكة للحكومة، واثنين مملوكين للقطاع الخاص. والذي يعرفه المصريون والعالم، أن تراجع احتياطي مصر من القطع الأجنبي شهد انخفاضاً دفعة واحدة بمقدار 1,4 مليار دولار أمريكي، ليصل الحجم الكلي الحالي لهذا الاحتياطي إلى حدود 13,6 مليار دولار، الأمر الذي أدى إلى النتيجة الحتمية، وهي تراجع متواصل لقيمة الجنيه، وبالتالي تصاعد مستوى معاناة المواطنين في كل مكان من البلاد. دون أن ننسى أن ''موديز'' لم تستبعد أن تخفض تصنيف مصر إلى ما دون تصنيف اليونان نفسها، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه.
في ظل المشهد المصري الراهن، ليس مهماً من يحكم مصر.. المهم من يُديرها. والجهات الساعية لمساعدة مصر، سواء الدول أو المؤسسات الدولية المعنية، لا تتعاطى مع الحالة الراهنة للبلاد من منظور سياحي، بل من رؤية شاملة للوضع. والاتفاقات الاقتصادية التي تُوقع، هي أكثر الاتفاقات تطلباً لوضوح هوية أطرافها. فالمسألة باتت واضحة. لا تعاطي سريعا وفاعلا في المجال الاقتصادي مع مصر، قبل أن يظهر توافق وطني فيها. ولا توجد مؤشرات تدل على أن هذا التعاطي سيتفاعل في ظل استمرار حكومة قنديل، رغم كل المطالب التي ظهرت في الآونة الأخيرة بضرورة تغييرها، ليس فقط من قوى المعارضة، بل حتى من موالين لنظام الحكم الإخواني (باستثناء جماعة خيرت الشاطر داخل الجماعة!). فالحكومة فشلت في كل شيء، حتى في ''جملة مفيدة'' يطلقها رئيسها. ولكن يبدو أن الرئيس محمد مرسي لا يزال ''ينتظر'' وصول قرار إقالتها.
لهذا الانتظار عواقب اقتصادية هائلة، تضاف إلى العواقب الناجمة عن الإدارة السياسية لنظام الحكم. والسائد حالياً ليس سوى معاندة رهيبة للداخل والخارج، في حين تخلت دول كبرى عن هذا النوع من السلوكيات السياسية، واعتمدت ''الإشراك'' الوطني والخارجي وسيلة ناجعة لحل المشاكل، وإنهاء الخلافات، وتقليل الأضرار.. وفي أسوأ الأحوال، احتواؤها. إن مصر الآن، تحتاج إلى اقتصاد أكثر من احتياجها للسياسة. صحيح أنها لم تصل (اقتصادياً) إلى مرحلة الانهيار، ولكن ذلك دخل بالفعل دائرة الاحتمالات. ولم يبالغ المعارض محمد البرادعي عندما قال بوضوح: ''جميع دول العالم، أمريكا وأوروبا والخليج، لن يعطوا هذا النظام دعماً على الإطلاق. لا قرش أبيض ولا قرش أحمر، بما في ذلك صندوق النقد الدولي''. فالجهات المذكورة تنتظر لترى مشاركة وطنية حقيقية إلى جانب توافق وطني.
من دون هذا التوافق، ومن دون نظام حكم يدير لا يُدار، سيتواصل الهبوط الاقتصادي في البلاد، وسيجر معه المجتمع كله. تحتاج مصر الآن إلى تدخل سريع لا للنهوض، بل لوقف الانهيار الاقتصادي. فالخراب الموروث يغذيه خراب متجدد، بات يقرب صورة مصر شيئاً فشيئاً من حالة التماهي بين الخراب الذي كان والخراب الذي يكون. ولا شك في أن الخلاص من حكومة، ''لا يعرف رئيسها، لكنه متأكد، رغم أن لديه شكوكا''! هو بمنزلة خطوة أولى على طريق طويلة جداً، لبناء الثقة المفقودة داخلياً وخارجياً. فليس أسوأ للنظام الحاكم في مصر، من تقلص الفارق بينه وبين نظام المخلوع حسني مبارك. وكلما تقلص هذا الفارق، دنت ساعة الحقيقة لمن يحكم مصر. وهي نفسها الساعة التي مرت على مبارك، ومرت على أنظمة آمنت بأنها تمتلك لحظاتها ودقائقها، بعد أن دخلت في حرب ضد الزمن. إنها مسألة وقت دائماً. وأهم ما فيها أن الأوقات تتغير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق