الجمعة، 22 يونيو 2012

الجبهتان الفرنسية والألمانية في معركة اليورو

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





     "لا أحد في أوروبا سيُهمَل، لا أحد في أوروبا سيُعزَل. أوروبا ستنجح إذا ما عملنا كلنا مع بعضنا البعض"
                                                                                       أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا

كتب: محمد كركوتـــي
تستطيع أنجيلا ميركل أن تحاجج من يرغب في الجدل معها، بأنها لا تزال ملتزمة بما قالته عن أوروبا، قبل أن تدخل هذه القارة في نفق الديون الملتهب (لا المظلم). فهي أعلنت أن أحداً في أوروبا لن يُهمَل ولن يُعزَل، لكن قبل أن تورط نفسها كثيراً في كلام حاسم قاطع لا مجال للمراوغة فيه أو الالتفاف حوله، أسرعت لتقول (قبل الأزمة مرة أخرى)، بأن نجاح أوروبا لا يتم إلا بالعمل الجماعي. وهذا التعبير الأخير، هملامي فضفاض، يوفر مساحات للجدل الذي عادة ما يقدم أفضل المحاور لإضاعة الوقت بل وهدره. فلا توجد صيغة واحدة جاهزة للعمل الجماعي (أي عمل)، لأنه في الواقع نتاج حلول وسط، وفي بعض الأحيان هو وليد تنازلات وتراجعات، وفي أحيان أخرى، يأتي في سياق إهانات، إن وجد من يقبلها على نفسه، وفي الحالة الأوروبية، إن ظهر من يقبلها على بلاده. ولأن الأمر كذلك، لم تعلن ميركل (على سبيل المثال) اتفاقها مع ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قبل سنوات، الذي اعتبر أن بُنية أوروبا، هي فن، ليسرع في القول "إنه فن الممكن".
لا شك في أن ميركل ترغب في تكريس "فن الممكن" في البنية الأوروبية، لكن وفق معاييرها الخاصة، واعتباراتها السياسية الداخلية. ولأن الأمر ليس سهلاً، على الرغم من قدرات بلادها الإنقاذية لعدد من الدول الأوروبية المتهاوية، فليس أمامها سوى التمسك بـ "العمل الجماعي". ولكن مهلاً، هل يفهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، آليات ومعايير العمل الجماعي الذي تسوقه المستشارة الألمانية؟ أقول هولاند، لأنه الموازي الأهم لميركل في التعاطي مع أزمة الديون الأوروبية، ولأنه يتحرك وفق خطط، يعتقد أنها الأفضل في عملية الإنقاذ، وقبل هذا وذاك، ليس من أولئك القادة الذين يستسهلون العمل السياسي بشقه الاقتصادي، ويلجأون عادة إلى سياسة رد الفعل. فهو مهاجم شرس يحرص ألا يرتكب الأخطاء، تجنباً للبطاقة الحمراء، التي ستخرجه من الملعب، وتترك "حارس مرماه" بمفرده أمام مهاجمة شرسة أيضاً (ميركل)، لكنها لا تولي اهتماماً كافياً للبطاقات التي يحملها الحَكم. صفراء، حمراء، طرد.. الأمر ليس مهماً، طالما أنها لا تزال اللاعب الذي لا غنى عنه.
هناك "أزمة إجراءات" حقيقية بين فرنسا وألمانيا، حاول المسؤولون في كلا البلدين إبقائها خلف الأبواب المغلقة قدر الإمكان. إلا أن الاختلافات (بل الخلافات) كانت أكبر من أن تُبقي الأزمة ضمن اجتماعات بين الطرفين، الأمر الذي دفع رئيس وزراء إيطاليا ماريو مونتي إلى تنصيب نفسه وسيطاً بين الطرفين، رغم أنه هو نفسه، قد يحتاج إلى وسيط بينه وبين الطرفين المعنيين أنفسهما، عندما "يقرر" أن بلاده تحتاج كما اليونان والبرتغال واسبانيا وايرلندا إلى حزمة إنقاذ، بصرف النظر عن قيمتها وشروطها، وربما مهانتها. ولا يبدو أن وسيطاً كهذا سوف يحقق النجاح، خصوصاً، وأن "أزمة الإجراءات" بين باريس وبرلين ليست اقتصادية بالكامل. هي مزيج بين الاقتصاد المضطرب (هناك من يصفه بالمتهالك) وبين الايدولوجيا السياسية. بين يسار معتدل، ويمين أقل اعتدلاً، مع ضرورة الإشارة هنا، إلى ضرورة عزل اليمين اليوناني تحديداً عن هذه المعادلة. فاعتباراته مختلفة بحكم فداحة وفظاعة أزمة ديون بلاده، وبفعل التداعيات والتخبطات الانتخابية الداخلية.
والمعادلة في الواقع واضحة. الأوروبيون المحافظون يريدون إقرار خطط التقشف في البلدان الأوروبية كلها، وليس فقط تلك التي ترزح تحت وطأة وضربات الديون، في حين يرى الاشتراكيون الليبراليون، أن هذه الخطط هي بمنزلة انتحار سياسي واجتماعي، ويدفعون باتجاه اعتماد ما يمكن توصيفه "تقشف أقل ونمو أكثر". ولكن هل يمكن أن تتحقق هذه المعادلة؟ المدافعون عن هذه الرؤية- الخطة التي تبناها فرانسوا هولاند فور فوزه في الانتخابات الرئاسية، يؤكدون بأنه يمكن أن يتحقق النمو المطلوب، دون أن تصاب الشعوب الأوروبية بالمزيد من الأذى، إذا ما تم طرح سندات الخزانة الأوروبية. لكن الرافضين (المحافظين) يؤكدون في الوقت نفسه، على أن عدم إحكام القبضة على ضبط الموازنات العامة، يعني ببساطة أن كل الخطط ستكون بمهب الريح، وسترتفع فداحة أزمة الديون، بل ستزيد من وحشية عدواها، وسرعة انتشارها في الأرجاء.
ليس أمام فرنسا وألمانيا سوى الاتفاق. لكن السؤال يبقى، الاتفاق على ماذا؟ على "العمل المشترك" شرط ألا يكون بمفهوم المستشارة الألمانية، وبصيغة أخرى "العمل المشترك الممكن". وهو في الواقع يمثل رمزاً مشتركاً لرئيس فرنسي اشتراكي حالي، وآخر يميني محافظ سابق. إنه يوفر لميركل حلاً أعلى من الوسط، الأمر الذي تحتاجه هي شخصياً على الصعيد السياسي الداخلي الآن في بلادها. فمستشارة ألمانيا هي الوحيدة المتبقية من زعماء أوروبا الذين انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية في وجوههم، والتي فجرت معها أزمة ديون تاريخية، في قارة لا تزال تصنع التاريخ بأشكاله المختلفة.

هناك تعليقان (2):