الثلاثاء، 5 يونيو 2012

من قال إن اليورو منيع؟!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

"شكراً لليورو.. هو دليل قوي على الهوية الأوروبية. علينا أن نبني على ذلك، ونجعل من اليورو أكثر من عملة، ومن أوروبا أكثر من منطقة جغرافية"
لوران فابيوس وزير المالية الفرنسي الأسبق، ووزير الخارجية الحالي

كتب: محمد كركوتـــي
 
لا أعرف إذا كان لوران فابيوس، لا يزال متمسكاً برؤيته الخاصة باليورو والهوية والجغرافيا الأوروبية وما يرتبط بها. فقد أطلق هذا الاستنتاج-الرؤية في عام 2000، عندما كان وزيراً اشتراكياً للمالية في حكومة تحت قيادة جاك شيراك الرئيس اليميني، مع ضرورة الإشارة هنا، إلى أن يمين فرنسا ليس –مثلاً- كيمين بريطانيا حيال أوروبا، في رؤيته للوحدة الأوروبية. فالأول متناغم معها إلى أبعد الحدود، بل ومقاتل شرس من أجلها، والثاني معطل لها قدر الإمكان. اليوم يعود فابيوس إلى "مطبخ" الحكم الفرنسي وزيراً للخارجية، في ظل فروقات ومفارقات تاريخية هائلة بين ما كانت عليه أوروبا قبل 12 عاماً، وما هي عليه الآن. فاليورو (الطفل) الذي ولد في عام 2000، وجلب معه الفرحة التي ينشرها المواليد في الأجواء، ضلل الجميع –دون استثناء- ببهائه وقوته ونضارته وجاذبيته.. بل وجماله، إلى درجة أن خاف البعض عليه من حاسد بريطاني هنا، وآخر أميركي هناك. فقد كان يكفيه "الحُساد" الأوروبيون القابعون في شرق القارة، الذين كانوا ينتظرون دورهم لحجز أمكنتهم القريبة منه اقتصادياً وتشريعياً واجتماعياً.

الفرحة بولادة اليورو، أنست المبتهجين، بأن هذا المولود يحتاج كغيره من المواليد، إلى لقاحات مانعة للأمراض والأوبئة، خصوصاً تلك المُعدِية. وربما كان سبب ذلك، هو من فرط اعتقادهم بأنه منيع أصلاً، لا يمكن أن يطاله وباء اقتصادي أو مرض مالي أو حتى "نزلة برد" مصرفية. فقد كانوا يظنون أن مناعته مكتسبة وليست مستوردة. هي جزء من التكوين! وإن وجد من يتنازل منهم ويعترف بأن اليورو (مثل بقية المواليد، بل وحتى الكبار) يمكن أن يتعرض لـ "نزلة برد"، فقد تعاطوا مع هذا الأمر وفق المفهوم الإنجليزي لهذه الوعكة الصحية العادية، بأنه يمكن الخروج منها خلال أسبوع بالدواء، وفي سبعة أيام بلا أية عقاقير. كانوا يتعاطعون مع "المناعة" المتصَوَرة لديهم، بمنزلة رصيد لا يمس لليورو، تماماً مثل الأرصدة المالية والاحتياطيات من الذهب التي تسند العملات المتداولة، دون أن ينتبهوا، إلى أن دورة الاقتصاد تمر بمراحل من الازدهار والكساد، وفي حالة الاقتصاد العالمي المنفلت الذي ساد الساحة على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، تمر الدورة بمرحلة الخراب الحتمي. وهذا ما حدث بالفعل، عندما أزاح الانفلات، كل معايير الانضباط، وأوجد الأزمة الاقتصادية العالمية.

لقد تحول السؤال الذي طرح في عام 2000 كيف يمكن أن نجعل اليورو أكثر من عملة.. أوروبياً؟ إلى مجموعة مريعة من الأسئلة، ليس فقط حول العملة الأوروبية، بل حول الشكل الأمثل للاتحاد الأوروبي! والبعض المتطرف يتحدث عن ضرورة إجراء عمليات "تجميل" لهذا الاتحاد، بعد أن أصابه اليورو بالتشوه. ويتصدر هذه الأسئلة.. السؤال المخيف، هل ينفرط عقد منطقة اليورو؟ وبصورة ألطف، هل تخرج اليونان وربما بعدها اسبانيا من هذه المنطقة؟ وهل هناك تحضيرات جارية لاحتواء عواقب خروج اليونان؟ هل يدير قادة أوروبا أزمة اليورو جيداً؟ حسناً.. هل يستطيع البنك المركزي الأوروبي القيام بدور الحكومات وإحلال النمو المالي والازدهار الاقتصادي؟ هل يمكن لألمانيا المنقِذة مواصلة الضخ المالي إلى أجل غير مسمى؟ والسؤال الأصعب، هل تتحمل ألمانيا نفسها انهيار بعض دول اليورو؟ هل تنتشر العدوى في دول أخرى من منطقة اليورو؟ لماذا لا تفرض الدول التي لا تزال قادرة، الوصاية على تلك الغارقة في ديونها وأزماتها السياسية الداخلية؟ أين الرؤية المستقبلية للمنطقة؟

الأسئلة كثيرة ومخيفة، ولا يوجد على الساحة الأوروبية (على الأقل الآن) من يستطيع الإجابة عليها، أو على بعض منها. ورغم أن غالبية قادة منطقة اليورو الحاليين، جاؤوا ما بعد غرق المنطقة في ديونها، إلا أنهم لم يقدموا أية حلول ناجعة أو مقنعة في سبيل انتشالها من الغرق. ولهذا السبب بدأت تظهر أسئلة حول أهلية هؤلاء في إدارة الأزمة-الكارثة. والحقيقة أن التمنيات بتماسك منطقة اليورو والحفاظ على أعضائها (بما في ذلك العضو اليوناني)، لا توفر إلا الأوهام، خصوصاً في ظل مشاكل عديدة متصاعدة ليس في الدول الأكثر إصابة فحسب، بل في تلك التي لا تزال العدوى بعيدة عنها، بصرف النظر عن مساحة بُعدها.

كانت الأزمة الاقتصادية العالمية السبب في كل الخراب الذي شهده ويشهده العالم منذ انفجارها في عام 2008. وقد ساهمت الثقة المُبالغ فيها بصحة اليورو في استفحال أزمة منطقته. فإذا كانوا (وهو في سن الثانية عشرة) يتحدثون عن مصيره، فكيف الحال عندما يصل إلى مرحلة الشيخوخة؟! لقد حان زمن الواقعية الاقتصادية في كل مكان، ويكفي العالم أجمع، أنه عاش أوهاماً اقتصادية، تحولت إلى كوابيس، بعد أن جعلت الظلام يسود في عز النهار.

هناك تعليق واحد: