الاثنين، 26 سبتمبر 2011

الأسد بائع القمع والنفط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"الطغاة يصنعون الحرية لأنفسهم، باستعبادهم للناس"
تشارلي تشابلن ممثل كوميدي بريطاني

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
لم تمض أيام على التصريحات "العنترية" لأعوان سفاح سورية بشار الأسد، وتحديهم للعقوبات الغربية (لاسيما الأوروبية)، واستعراض "عضلاتهم" اللغوية البائسة، و"تشبيحهم" اللفظي، حتى بدأت آثار العقوبات بمجملها تظهر على الساحة، وتحديداً على سلطة الأسد نفسها. فالأكاذيب التي يطلقونها، تجعلهم في مقدمة مُطلِقي الأكاذيب ذات الحبال القصيرة جداً.. جداً، وهم الوحيدون الذين تنكشف أكاذيبهم، حتى قبل أن ينتهوا من إطلاقها. وللإنصاف لم ينجحوا في مد حبل طويل، إلا لكذبة واحدة في تاريخ الأسد الأب والابن، هي تلك التي أوهموا فيها من يحبون وهْمَ النفس، بأن السُلطة التي حكمت البلاد لأكثر من أربعة عقود، هي سُلطة ممانعة، ولا بأس من سُلطة مقاومة، أو صمود، أو تصدي، أو كلها مع بعضها البعض على شكل "سَلَطة". الذي حدث في الحقيقة، أن إسرائيل أدمنت هذه الممانعة، لدرجة اعتبرها المسؤولون في تل أبيب، خياراً استراتيجياً إسرائيلياً، ينبغي الحفاظ عليه إلى آخر مدى!

قبل أسبوعين تقريباً، أطلق وزير المالية محمد الجليلاتي تصريحاً مجلجلاً متحدياً، بأن "العقوبات لن تضر سورية. ستظل سورية واقفة على قدميها. لا مشكلة ما دامت احتياجاتنا المحلية مكفولة". وقال أيضًا "إننا نبحث عن مشترين للنفط المخصص للبيع". لكن أين هم المشترون الآن؟ كان الأسد يسعى إلى الالتفاف على العقوبات النفطية المفروضة عليه، ليبيع النفط المنهوب من مقدرات الشعب السوري، إلى روسيا أو الصين أو الهند. وهذه الدول لا تزال تعتقد بأن هناك فرصة لبقاء الأسد في السلطة، ليس من جهة استقراء عميق للأحداث، بل من ناحية مصالحها المعروفة. الذي حدث أن أياً من هذه البلدان، لم ترد على عروض البائع الأسد، وأخذت تتهرب من ذاك البائع. والحقيقة أنه لا توجد جدوى اقتصادية من شراء هذا النفط، لأن الكميات صغيرة، ولا تبرر المخاطر التي ستنجم عنها. ولأن الدول (ومعها الشركات) تتحرك بالمصالح، فإن قلة المعروض، لا يستقطب في العادة المشترين، حتى لو كان هؤلاء يسعون إلى بقاء الأسد في سلطة لا يستحقها، يضاف إلى ذلك أن هناك فائضاً نفطياً عالمياً، لا يشكل فيه النفط السوري سوى 0.5 في المائة.

والذي يقلق بشار الأسد وأعوانه، حالة غريبة أزعم أن أحداً منهم يمكنه تناولها، وهي أن الصادرات النفطية السورية توقفت نهائياً، على الرغم من أن العقوبات الأوروبية باستيراد هذا النفط لا تبدأ قبل منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بموجب العقود الموقعة قبل الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري. فقد توقفت المصارف عن تمويل عمليات التصدير، في حين عبرت شركات روسية عن عدم رغبتها في المجازفة. لو أضفنا إلى توقف الصادرات، العقوبات الأوروبية الجديدة القاضية بحظر الاستثمارات في قطاع النفط السوري، يعني ذلك أن المال آخذ في الشح بأيدي السلطة، الذي تستخدمه عملياً في تمويل حملة الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري. فالنفط السوري لم يكن على مدى أكثر من أربعين عاماً للسوريين. كان سلعة خاصة بالسلطة فقط.

وعلى الرغم من التأثيرات المباشرة للعقوبات الأوروبية والأميركية على سلطة الأسد، إلا أنها لا تضمن انهياره على المدى القصير، بل وحتى المتوسط. فلا تزال السلطة تمتلك قوة عسكرية رهيبة تستخدمها ضد المدنيين العزل، كما أنها لا تزال تتمتع بإمدادات اقتصادية وعسكرية و"إجرامية" من إيران، تستدعي بالفعل تحركاً تركياً عن طريق فرض عقوبات واضحة على الأسد، ومنع الإمدادات الإيرانية له من خلال المراقبة البحرية. لكن يبقى في النهاية العزل السياسي الكامل، وقرار واضح من مجلس الأمن الدولي، هما الخياران الأكثر نجاعة في تقصير عمر الأسد وإنهاء سلطته غير الشرعية. فلم يحدث في السابق أن انهار نظام مباشرة من جراء العقوبات الاقتصادية التي تفرض عليه. الذي يحدث عادة، أنه كلما طالت العقوبات (بصرف النظر عما إذا كانت ذكية أو "غبية")، كلما اقتربت آثارها من الناس. وقد استخدم الأسد الأب على مدى أكثر من عقدين من الزمن، العقوبات المفروضة عليه، ضد شعبه. فقد كانت حجة حظيت بمن صدقها، للتغطية على عمليات السرقة التاريخية التي كان يقوم بها، والتي أدت إلى اقتصاد سوري متهالك بصورة مزمنة، لا تزال سائدة على الساحة حتى الآن.

الآن عاد "مسلسل" الأسد الأب الاقتصادي نفسه، مع تغيير في التاريخ فقط. فقد شرع الابن في تعليق استيراد السيارات وبعض الكماليات (حسب وزير الاقتصاد)، وذلك للحفاظ على الاحتياطي من العملات الصعبة. هل يعود ذلك إلى العقوبات المفروضة على الابن؟ لا يحتاج الأمر لمتخصص في الاقتصاد لكي يعرف بأنه لا دخل للعقوبات في هذا القرار، وأن تعليق استيراد الكماليات (ولا أحد يعرف ماهيتها)، سينسحب بعد فترة على مناديل "الكلينكس". ولمن نسي، كانت هناك ضروريات مُنع استيرادها في عهد الأسد الأب، بحجة العقوبات، وكانت القصة المختلقة، أن الغرب لا يريد للسوريين العيش الكريم، بل يسعى إلى تجويعهم. لم تكن هذه القصة سوى كتلة هائلة من الأكاذيب. فلم يكن لا للغرب ولا الشرق دخل في هذا الأمر، لأن العقوبات لم تكن تشمل آنذاك سوى الصادرات المرتبطة بالسلاح. فقد منع الأب استيراد كل شيء تقريباً وعاش الشعب السوري محروماً منها، لأن خزائن المصرف المركزي السوري باتت خاوية، نتيجة السرقات الكبرى، وسيطرة شقيقه رفعت على مقدرات البلاد، بما في ذلك سرقته للاحتياطي المالي كله، وضخ مكانه أوراقاً نقدية سورية طُبعت محلياً بدون سند أو تغطية.

قبل شهرين اتبع الأسد الابن الشيء نفسه، بعد أن تم تهريب أكثر من 23 مليار دولار أميركي من البلاد، وهروب كل المستثمرين الأجانب، وتوقف المشروعات، في حين "تناضل" الليرة السورية للبقاء كعملة يمكن الاعتراف بها ولو بنطاق ضيق. أخذ يسير على نفس درب الأب والعم، ولكن هذه المرة وسط ثورة شعبية سلمية عارمة، لم تشهد سورية مثيلاً لها في تاريخها.

ستُحضِر السلطة في سورية المزيد من الحجج، في محاولات بائسة لإقناع السوريين بأن التضييق الاقتصادي عليهم لا دخل لها به. لكن ما كان ينفع في عهد الأب، يبدو (في ظل هذه الثورة) مضحكاً في عهد الابن. فالذي كان يسرق وينهب ويقتل آنذاك، كان مطمئناً لوجود ملاذات آمنة له في النهاية، ولمجتمع دولي خفيض الصوت والإرادة. لم يعد المسرح بمُخرِجه كما كان في عهد الأب. المُخرِجون الآن هم الجمهور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق