الاثنين، 12 سبتمبر 2011

عندما يُسوِق الأسد النفط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"السارق والقاتل يتبعان طبيعتيهما، تماماً كما يتبع المحسن طبيعته"
توماس هنري هاكسلي عالم بيولوجي بريطاني

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
لا توجد حكومة في العالم، تقوم بحملات لـ "تسويق" عدم أهمية صادراتها النفطية بالنسبة للاقتصاد الوطني، ودورها في الحراك الاقتصادي المحلي، سوى حكومة سفاح سورية بشار الأسد! ولا يعود ذلك (بالتأكيد) إلى أن الأسد يؤمن بالحسد، ويهرب من "عيون" الحاسدين، بل لأنه (كما والده) يسعى للحفاظ على العوائد النفطية في طريقها الذي لا ينتهي عند الخزينة العامة للدولة! بمعنى آخر، أن تبقى خارج إطار الدخل المحلي، بلا سجلات أو دفاتر. ويطيب لمن تبقى من مؤيدي الأسد القول، بأنه لا توجد وثائق أو إثباتات أو قرائن، تؤكد أن العوائد النفطية لا تدخل في الخزينة العامة، وأنها تذهب إلى جيوب "القائد" وأعوانه. وهذا صحيح، لأن العصابات لا تعتمد المستندات في مسروقاتها، ولا تجدولها، ولا تستأجر المحاسبين للجرد السنوي. الشيء الوحيد الذي تقوم به بعد اكتمال عمليات السرقة، هو العثور على ملاذات آمنة لهذه المسروقات، وتحصينها من الملاحقات والضبط. وكان لزعيم المافيا الشهير آل كابون قولاً شهيراً في هذا المجال، عندما حاولت السلطات الأميركية إدانته لامتناعه عن دفع الضرائب. ماذا قال؟ "كيف يمكن دفع الضرائب المشروعة على أموال غير مسجلة وغير مشروعة". ومع ذلك، فقد حاولت المنظمات الحقوقية الغربية في تسعينات القرن الماضي، إثارة قضية سرقة الأسد الأب لعوائد بلاده النفطية، إلا أنها واجهت صداً منيعاً من حكوماتها آنذاك (ومعها الشركات النفطية الأجنبية العاملة في سورية، لأسباب ربحية صرفة)، وذلك لاعتبارات سياسية يعرفها الجميع، من بينها "التخويف الوهمي" من الفراغ السياسي والأمني إذا ما سقط الأسد، والرابطان اللبناني والإيراني، وضمان استقرار إسرائيل أمنياً وعسكرياً، والخوف من قيام الأسد بإعادة تصدير الإرهابيين إلى دول الغرب. والحقيقة أن الاعتبارين الأخيرين هما الأكثر واقعية من كل الاعتبارات، التي اعتاد الغرب تسويقها طوال أكثر من أربعة عقود.

يقول أعوان الأسد، في أعقاب فرض الاتحاد الأوروبي الحظر النفطي على "سورية"، إن الصادرات النفطية ليست ذات قيمة عالية، لأن الغالبية العظمى من الإنتاج يذهب للاستهلاك المحلي. ومع ذلك فقد فشلوا (كما العادة) في إخفاء الحقيقة التي جاءت من الشركات العالمية التي تقوم باستخراج وتسويق النفط السوري المنهوب، إلى جانب ما تعلنه مراراً، منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط المعروفة اختصاراً باسم "أوابيك". وحسب هذه الأخيرة، فقد جاءت سورية في العام 2008 ضمن قائمة الدول العربية المصدرة للنفط في المركز الثامن، بعد قطر وقبل البحرين ومصر، وبلغت العوائد النفطية في ذلك العام، الذي شهد انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أثرت سلباً على أسعار النفط 7989 مليون دولار أميركي. وتشكل هذه العوائد الضخمة بالنسبة لسورية (إذا ما حُسبت ضمن نطاق الإيرادات العامة، ومرة أخرى أقول: إنها لا تُحسب)، قرابة 17 في المائة من إجمالي الدخل المحلي(وإذا ما أُدخلت في الموازنة العامة، فهي تساهم في 24 في المائة منها)، وهي نسبة تدفع أية سلطة شرعية في العالم، إلى أن تشكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، على هذا الخير وتلك النعمة، وتعمل لتطويرها والحفاظ عليها. وقد استفادت السلطة في سورية، طوال الأعوام التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية، بارتفاع هائل لأسعار النفط، حيث وصل سعر البرميل في العام 2008 (الأزمة اندلعت في سبتمبر/أيلول من العام نفسه)، إلى 140 دولار أميركي، ولم ينخفض في العام 2007 دون 90 دولاراً. وفي العامين الماضي والجاري، ظل سعر البرميل متراوحاً في حدود 100 دولار أميركي.

في مقالي السابق الذي نُشر بعنوان "النفط السوري يقتل السوريين أيضاً"، أشرت إلى أنه كلما علت أصوات الأنظمة الوحشية التي تخضع للعقوبات الدولية، كلما كانت هذه العقوبات مؤثرة عليها. وقد تدافع أعوان السلطة لإطلاق تحدياتهم لهذه العقوبات، بما في ذلك وزير المالية محمد الجليلاتي، الذي قال: "إن العقوبات لن تضر سورية. ستظل سورية واقفة على قدميها. لا مشكلة ما دامت احتياجاتنا المحلية مكفولة". ماذا قال أيضاً؟ "إننا نبحث عن مشترين للنفط المخصص للبيع". والحقيقة أن العقوبات النفطية لن تضر سورية الشعب، بل بدأت أضرارها تظهر على السلطة التي تواجه شحاً متعاظماً في التمويل، الذي يستحق بجدارة توصيف "تمويل الهلاك". وقد كان الاتحاد الأوروبي رحيماً بالشعب السوري، عندما أحجم عن حظر كل أشكال التجارة بين شركات الطاقة الأوروبية وسورية، لأن مسؤوليه لا يرغبون في زيادة معاناة هذا الشعب عن طريق قطع إمدادات الوقود اللازمة لتوليد الكهرباء، حيث يعاني السوريون أصلاً شحاً تاريخياً فيها. وباستثناء بلدان ارتضت على نفسها ممارسة سياسة وأخلاق الشركات، لا سياسة وأخلاقيات الدول، فإن المجتمع الدولي يحاول بشتى الوسائل، فرض عقوبات ذكية على الأسد وأعوانه، بحيث لا تطال الشعب السوري، الذي يرزح منذ أربعة عقود تحت عقوبات محلية مريعة، سادت عهدي الأسد الأب والابن.

يبحث الأسد الآن، عمن يشتري النفط السوري المنهوب، وسوف يعثر بالنهاية على مشترين بشروطهم، وسوف يقبل بأية شروط أو أسعار كانت، لأن صنابير الأموال التي كانت مفتوحة عليه وعلى أعوانه، بدأت تتحول من حالة الدلف إلى حالة الشح، بينما تزداد العزلة الاقتصادية عليه مصحوبة بالعزلة السياسية الدولية، وشيئاً من العزلة العربية. وبعد فشل المساعدات المالية الإيرانية المباشرة (5.9 مليار دولار)، ومعها المساعدات الحكومية العراقية غير المباشرة (6 مليارات دولار)، في توفير الحماية لسلطة الأسد، وبعد هروب (وتهريب) ما يربو على 23 مليار دولار أميركي، إلى خارج سورية في غضون خمسة أشهر فقط، وفي ظل تراجع مفزع للاحتياطي النقدي، سيكون من الصعب عليه، أن يتأخر في العثور على مشتر للنفط السوري. فهذا النفط يوفر للسلطة ما يقرب من 15 مليون دولار في اليوم الواحد، أو 45 مليون في الشهر الواحد، وهي مبالغ مضمونة، بعد توقف الاستثمارات، واضمحلال العوائد السياحية بصورة كاملة حقاً، بينما يتجه الاقتصاد السوري "بثبات" نحو المجهول. لم يعد أمام الأسد مصادر تمويل أخرى، وفي ظل الثورة الشعبية السلمية العارمة، لا توجد بارقة أمل أمام هذه السلطة، للعثور على الإمدادات المالية، إلا إذا قرر جلب الأموال السورية المنهوبة على مدى سنوات طويلة، المخزنة في ملاذات آمنة، لاسيما في لبنان وإيران وفنزويلا، وبعض الدول الأفريقية التي تحكمها أنظمة مارقة وفاسدة. ولم يحدث في التاريخ، أن أقدم طاغية على استخدام الأموال التي سرقتها لحماية سلطته. فالطغاة يسرقون.. يسرقون، إلى أن يفروا من غضب شعوبهم، أو أن يقعوا انتظاراً لعدالة هذه الشعوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق