الأحد، 2 أكتوبر 2011

من كم سنة ميالة ميال

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"لا طاغية ولا محتل، يمكنه اعتقال أمة بأكملها بقوة السلاح إلى الأبد"
مايكل ستازينكي كاتب أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
لست ممن يفضلون الرد على الأكاذيب (أياً كانت)، ليس لعدم توفر ما يدحضها أو ما يدحرها، بل لأنها دائماً تحمل في متنها وعلى مسرحها ما يفندها ويعريها من جلدها، لأن للأكاذيب في كل الأحيان ثوباً وهمياً لا يستر، مهما بلغت "عفة" الحملات لتسويقها. وإذا كانت نصف الحقيقة هي أكثر الأكاذيب جُبناً، فكيف الحال بالأكاذيب المطلقة؟! ونحن نعلم أن كذبة واحدة فقط، تدمر كل النزاهة (إن وجدت)، كيف سيكون الأمر، إذا كان الكاذب يحيا من إمدادات أكاذيبه؟! كما أنني لست من أولئك الذين يستعذبون الأغنيات الحديثة، لعدم تجاوبها معي شعراً ولحناً.. وغالباً صوتاً، غير أن هذا لم يمنعني من استعارة اسم إحدى أغنيات عمرو دياب، عنواناً لهذا المقال، طالما أن الحديث يتناول في جانبه الأهم "حاكم" المصرف المركزي السوري أديب ميالة، الذي أثبت قدرة هائلة على مَيلٍ تاريخي لسفاح سورية بشار الأسد. وإذا كان المغني دياب يستحق اعتذراً على تصرفي في عنوان أغنيته، فإن للشعب السوري الحق في جلب ميالة إلى المحاكمة، حتى ولو قدم اعتذارات، توازي حجماً المعلومات المضللة التي يطلقها، رغم حقيقة أن ميالة ليس سوى حاكماً ورقياً للمصرف، الذي ملكه الأسد الأب والابن منذ أكثر من 41 سنة.

سأخرج هذه المرة عما ألفت، لاعتقادي بأنه لا يزال هناك من يُصدِق غير المُصَدَق. يسعى ميالة (كما قال)، إلى توفير 6 مليارات دولار أميركي، من خلال القرار الذي فاجأ حتى أعوان السلطة من قُطاع الطرق والتجار، بوقف استيراد ما يقرب من 25 في المائة من الواردات التي وصفت بالكمالية، وذلك كـ "رد على العقوبات الأميركية والأوروبية". ماذا يقول "حاكم" المصرف المركزي؟ "إن هذا القرار جاء بفعل عقوبات تطال مباشرة الشعب السوري". لم يأت الرد على هذا الكلام من متآمرين أو مندسين أو مسلحين، جاء من أكثر الجهات موالاة لبشار الأسد. فبعد أن استكمل ميالة تحليلاته الوهمية مباشرة، خرجت غرفة صناعة حلب ببيان، تناشد فيه الحكومة إعادة النظر بقرار تعليق الاستيراد، لماذا؟ (أنقل جانباً من نص البيان) لأن القرار "يسبب ضرراً بالغاً لمعظم الفعاليات الاقتصادية الصناعية والتجارية والتي تعيش ظروفاً اقتصادية صعبة جداً، وتحاول جاهدةً تجاوز آثار العقوبات الاقتصادية، وهي حتماً غير قادرة على تحمل المزيد من الخسائر والعراقيل، في تأمين مستلزمات انتاجها بالكلف المقبولة وبالسرعة الكلية، لكي تتمكن من الاستمرار والحفاظ على عمالتها وتأمين الأمن المعيشي والاجتماعي للوطن".

لا نتوقع أن يقول "حاكم" المصرف المركزي السوري الحقيقة، فهو ميال إلى درجة متطرفة لسلطة آيلة إلى السقوط حتماً. والحقيقة أن الـ 6 مليارات دولار التي يسعى لها من خلال حظر عدد كبير من الواردات، هي جزء من أموال تنهب من المصرف المركزي منذ عقود، وارتفعت وتيرة النهب في أعقاب الثورة الشعبية السلمية العارمة التي تجتاح البلاد. وتكفي الإشارة هنا إلى تقرير لمجلة "الإيكونومسيت" البريطانية الرصينة، الذي أكد هروب ما يزيد عن 23 مليار دولار من البلاد في غضون أربعة أشهر فقط. كما أن العقوبات الأميركية والأوروبية، لم تستهدف الشعب السوري، لأنها تركزت في القطاع النفطي الذي تدخل عوائده مباشرة في خزائن الأسد وأسرته، ولا بأس من بعض أعوانه، ونالت من شخصيات محددة في السلطة (في مقدمتها بشار الأسد)، تستحوذ تاريخياً على مقدرات الاقتصاد السوري. والعملات الصعبة التي يسعى ميالة إلى توفيرها، هي جزء من الخسائر التي منيت بها السلطة (وليس سورية) من جراء العقوبات المشار إليها. فالأسد يخشى من تراجع حجم الإمدادات المالية الإيرانية له، وإن كان مطمئناً من عدم تراجع إمدادات طهران الإجرامية، التي تصل سوريا على شكل مرتزقة وأسلحة مخصصة لقتل المدنيين وقمع المظاهرات، فضلاً عن تلك التي تصل للأسد من حزب الله الإيراني في لبنان.

والحقيقة أن إيران التي تعاني من أزمات اقتصادية داخلية جمة، قد تواجه مصاعب في توفير الدعم المالي للأسد إلى ما نهاية، خصوصاً وأن الثورة السورية ستتواصل إلى أن تحقق أهدافها في إسقاط الأسد وعائلته الحاكمة. كما أن هذه الثورة قلصت أعداد الإيرانيين الذين "يحجون" إلى سورية وينشئون "الحسينيات الاستثمارية" هناك. وكان هؤلاء يوفرون دخلاً جيداً من العملات الصعبة للسلطة. وحرصاً من نظام الملالي الإيراني على استمرار التفقد المالي للأسد، فقد مارست طهران ضغوطاً كبيرة على الحكومة العراقية الموالية لها، لتصدير قسم من النفط العراقي عبر الأراضي السورية. فالدخل الناجم عن عمليات التصدير، سيسد جزءاً من الدخل الذي كان يصب في خزائن السلطة من جراء بيع النفط لأوروبا، لاسيما وأن الأسد أبثت –حتى الآن- أنه مسوق فاشل للنفط المرفوض أوروبياً، تماماً كما هو حاكم فاشل بلا شرعية. ولم تنفع – الآن على الأقل- محاولات أعوان الأسد وفي مقدمتهم ابن خاله رامي مخلوف، لإنشاء شركات ومؤسسات وهمية تلتف على العقوبات الأوروبية والأميركية. وباستثناء حكومتي لبنان والعراق في الجوار، وحكومتي روسيا والصين، ومعهما بالطبع النظام الإيراني، فإن الحصار الاقتصادي يأخذ كل يوم شكل حبل يطوق رقبة الأسد. دون أن ننسى أن إيران هي نفسها تخضع لعقوبات دولية مختلفة، وتخضع مؤسسات لبنانية (لاسيما المصرفية منها) لعقوبات مماثلة.

مرة أخرى.. إن قرار وقف استيراد المواد والبضائع التي سُميت بالكمالية، لا يهدف إلى حماية الاحتياطي من العملات الصعبة في سورية، و "حاكم" المصرف المركزي كُلف في الواقع من قبل الأسد، لتوفير ما أمكن من هذه العملات، لسد مساحة من الفجوة التي أحدثتها العقوبات. ولو كان الأمر يرتبط بالفعل بحماية الاحتياطي وبالتالي حماية قيمة الليرة السورية، لما أشرف هو نفسه (ولايزال) على طباعة العملة السورية بدون سند أو رصيد، إلى درجة دفعت المؤسسات الخارجية إلى رفض قبول الأوراق النقدية من فئتي الألف والـ 500 ليرة، المطبوعة في مطابع السلطة.

ولمن نسي، كان حافظ الأسد، متخصصاً على مدى سنوات طويلة في منع استيراد البضائع من خارج سورية، لأن السرقات الكبرى التي حدثت في عهده التهمت كل احتياطي البلاد من القطع الأجنبي. وماذا فعل أيضاً؟ أدخل البلاد كلها في دائرة التهريب الفظيعة. فكان القائمون على عمليات التهريب (وكلهم من السلطة)، يهربون كل شيء، من السيارات والمعدات الثقيلة والأجهزة الإلكترونية، إلى مناديل "الكلينكس" والسجائر.. وحتى الموز والفراولة! وكانت السلعة المهربة تدل على مكانة المهرب (ومنصبه) في السلطة نفسها. ولأن التاريخ يعيد نفسه، فإن المهربين الذين يشتغلون الآن كـ "شبيحة" ( والأفضل وصفهم بقُطاع الطرق)، يمارسون اليوم مهنتان، الأولى: قتل المدنيين العزل وسحلهم والتمثيل بهم وتقطيع أوصالهم، والثانية: تدمير ما تبقى من اقتصاد البلاد. إن وجد لهذا الاقتصاد بقية.

هناك تعليق واحد: