الاثنين، 25 يوليو 2011

التكاليف السورية للمليارات الإيرانية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


"عندما لا يفهم الناس، لماذا لا تضع حكوماتهم مصالحهم في حساباتها، فهم سيكونون عرضة للدخول في حرب"
هاورد زين، مؤرخ وناقد سياسي واجتماعي أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
هبت إيران مالياً.. لنجدة سلطة بشار الأسد في سورية، بعد أن فقد توصيف النظام، بتوجيهه آلته العسكرية، ضد الشعب السوري الأعزل. هبت إيران لسند السلطة، لا الاقتصاد المتهاوي الماضي في طريقه إلى مجهول معلوم –إن جاز التعبير-. هبت إيران لحماية مصالح النظام القائم فيها، لا مصالح شعبها هي. هبت من أجل الإبقاء على السلطة الوحيدة المتحالفة (أو المندمجة) معها في المنطقة. هبت ساندة سلطة الأسد، لمساعدتها في سند نظامها القائم في بلادها. فقد عرفت مدى ضعف نظامها داخلياً، من خلال انتخابات رئاسية مزورة، فاز بها أحمدي نجاد، الذي ينتظر "عودة" المهدي ليحل مشاكل العالم أجمع! وعبر مظاهرات عارمة سادت إيران، وقُمعت بكل الوسائل التي يتقنها الحرس الثوري، ومن خلال عزل المجتمع الدولي لها، وعن طريق نتائج أفعالها الإقليمية، المريبة تارة والمريعة تارة أخرى. فقد عرف النظام القائم في إيران، أن الحفاظ على ما تبقى من قوته، يستدعي –على الأقل- الحفاظ على ما تبقى من سلطة الأسد، إذا ما فشل هذا الأخير في استعادة سلطته المطلقة.

قدمت إيران إلى الأسد، كل ما تستطيع تقديمه في قمع الثورة الشعبية السلمية العارمة للشعب السوري. ورغم التحفظ التاريخي للسياسة الخارجية البريطانية، لم تستطع لندن أن تُخفي معلوماتها الموثوقة مع اندلاع الثورة السورية، بأن إيران تقدم معدات مكافحة الشغب، وتدريبات شبه عسكرية لقوات "الأمن" السورية، وأن أعضاء من الحرس الثوري الإيراني يقومون بتقديم المشورة الفنية والمعدات للقوات الموالية لبشار الأسد، بما في ذلك معدات إلكترونية متطورة لإعاقة الوصول إلى شبكة الانترنت، ومنع انتشار الأخبار عن قتل المدنيين العزل. ومع استفحال الأزمة في سورية، وجدت السلطة هناك ضرورة لإشراك مجموعات من الحرس الثوري الإيراني إلى جانب عناصر من مليشيات حزب الله اللبناني –الخائف على مصيره- في أعمال القتل اليومية التي يتعرض لها السوريون. فالمرتزقة الأغراب، أكثر جودة في القتل من المرتزقة المحليين. وبذلك أُضيف إلى المشهد العام، استيراد مرتزقة لقتل وحشي بلا رحمة، وتصدير نازحين لم يعرفوا النزوح في تاريخهم وتاريخ أجدادهم!! ولا بأس من عمليات استيراد جانبية لمرتزقة من الإعلاميين، لاسيما من اللبنانيين.

لكن الثورة مضت إلى الأمام وسط وحشية تاريخية في قمعها، تُنافس وحشية الأسد الاب في ثمانينات القرن الماضي. ولأن الثورات تصنع المستقبل في خضم حراكها، وتصنع المجتمع والاقتصاد بعد انتصارها، دخل الاقتصاد السوري الذي لا يقوم على أسس معلومة، في نفق مظلم يقوده بالضرورة إلى المجهول. هنا.. كان على إيران أن تهب مرة أخرى لنجدة السلطة في سورية، من خلال عرضها تقديم 5,8 مليار دولار أميركي كمساعدات لها. فلم ينفع استجداء الأسد الابن السوريين، لإيداع الفرد منهم حتى ألف ليرة (ما يوازي 20 دولاراً) في المصارف لإسناد الليرة، ولم تجد تطمينات المريب دائماً رامي مخلوف (ابن خال بشار، وهو "مصرفي" العائلة الحاكمة المالكة)، بأن الدولار سيتراجع أمام الليرة حتماً، آذاناً صاغية، حتى بعد أن وضع على وجهه المكروه سورياً قناع "ماما تيريزا"، ولم تحقق مداهمة محلات الصرافة (تم إغلاق 30 محلاً في شهر واحد فقط) إلى أي شيء، ولم تسفر مشاركة إيران مباشرة في مراقبة الحدود ومنع فرار السوريين إلى لبنان بحوزتهم أموال إلى أي نتيجة، وبالتأكيد، لم يهتم أحد بتصريحات حاكم المصرف المركزي، بأن الاحتياطي من العملات الأجنبية، لم يتأثر كثيراً، ولم تنفع "التبرعات" القسرية البالغة 500 ليرة، التي اقتنصتها السلطة من راتب كل موظف حكومي، بما في ذلك الراتب الذي لا يزيد عن 5000 ليرة فقط!

وحسب الأرقام الرسمية - المشكوك بها دائماً- فإن 10 في المائة من الودائع في البنوك السورية، تم سحبها حتى الآن، أي ما يوازي 20 مليون دولار يومياً، في حين تشير الأرقام شبه الرسمية -المشكوك بها في كثير من الأحيان- إلى سحب 20 في المائة، أو ما يوازي 40 مليون دولار يومياً، بينما تتحدث الجهات المستقلة، لا المندسة ولا المتآمرة، بما في ذلك تحقيق موسع لمجلة "الإيكونوميست" البريطانية العريقة، عن هروب وتهريب أكثر من 150 مليون دولار يومياً من سورية، ليصل المجموع الكلي، حتى نهاية الشهر الرابع من الثورة إلى 20 مليار دولار. ولأن الوضع بهذه الصورة المخيفة، تقدمت إيران بـ 5,8 مليار دولار، تبتغي استمراراً –بصرف النظر عن تكاليفه البشرية والمالية- لسلطة بشار الأسد. وإيران لا تقدم عطاءات لوجه الله، ولم يحدث في تاريخها أن قامت بذلك على هذا الأساس، فكل دولار تقدمه، تحسب عوائده. ودائماً ما تكون العوائد سياسية، ومن الأفضل أن تكون طائفية، تصب في استراتيجية النظام القائم في طهران. ووفق هذا المنظور تقدم دعمها بكل الأشكال، لحزب الله وميليشياته في لبنان. فعلت ذلك في أعقاب الحرب التي افتعلها هذا الحزب مع إسرائيل في العام 2006، وقبلها على مدى سنوات خلال الحرب الأهلية اللبنانية. كان دعمها –ولايزال- مبني على مستوى الولاء لها والاندماج بها، لا على ولاء المدعوم لبلاده والاندماج بوطنه.

كان حال العلاقة بين سورية وإيران في عهد الأسد الأب، أن هذا الأخير عمل مع طهران في ظل شعاراته القومية العربية الجوفاء المثيرة للضحك، بينما يعمل الأسد الابن عند إيران، مع استمرار الشعارات الجوفاء ذاتها، وارتفاع معدلات الضحك. وعندما يقدم النظام الإيراني مليارات الدولارات لبشار الأسد، يعني أن طهران ستمتلك ما تبقى من إرادة السلطة السورية –إن وجدت أصلاً- ولن تمتلك شيئاً من إرادة الشعب السوري. لن يذهب دولار واحد لبناء اقتصاد وطني طبيعي، ولن يستفيد مواطن سوري واحد من المليارات الإيرانية. هذه المليارات مخصصة لإطالة أمد بقاء سلطة الأسد، خصوصاً وأنه لا يبدو في الأفق أي مؤشر على تراجع الثورة الشعبية السلمية العارمة في البلاد. والأثر الوحيد الذي سيظهر لهذه المليارات، هو أن السلطة ستتمكن لأجل ليس طويلاً، من دفع رواتب الموظفين الحكوميين، بالإضافة طبعاً، لتخصيص جانب كبير منها، لشراء الأسلحة والمعدات، ليس لشن الحرب على إسرائيل، أو لدعم الجبهة الوهمية معها، بل لمواصلة الحرب على الشعب نفسه، بما في ذلك دفع مكافآت المرتزقة المحليين والأجانب.

ستعزز الأموال الإيرانية الجديدة، "اللاصق" التاريخي بين سلطة الأسد ونظام طهران، مع تكريس تبعية الأول للثاني. وإذا ما طال أمد وجود الأسد، ستنعم إيران بمزيد من الحضور والنفوذ ليس فقط على الساحة السورية فحسب، بل في النطاق الإقليمي أيضاً. سيكون عنوان المرحلة المقبلة هو "التخريب السياسي"، ولا بأس – بالطبع- بالتخريب الأمني، إذا ما كانت هناك ضرورة له. والمعادلة ستكون على الشكل التالي: "المال الإيراني+ المشروع الإيرانيX سلطة سورية هشة= خطر داهم على المنطقة العربية كلها".

إنها المعادلة التي تسعى إيران إلى استكمال أطرافها، منذ أكثر من ثلاثة عقود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق