الأربعاء، 20 يوليو 2011

كي يكون صندوق النقد بلا انتقاد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

''نحتاج إلى تجديد المعنى الكامل للكلمة القديمة: واجب. إنها الجانب الآخر للحقوق''
بيرل باك كاتبة أمريكية




 
محمد كركوتــي
 
حسناً.. انتخبت كريستين لاغارد وزيرة الاقتصاد الفرنسي، مديرة عامة لصندوق النقد الدولي (بالتوافق). وقد دخلت التاريخ، كأول امرأة تتسلم هذا المنصب. ويبدو أن العالم، لا يزال قابلاً لاحتكار أوروبا هذا المنصب 11 من أصل 12 مرة، فازت الولايات المتحدة الأمريكية بالمرة ''اليتيمة'' فيها. وبلاغارد تكون فرنسا قد احتلت هذا المنصب الحيوي العالمي المهم خمس مرات. التوافق في كل شيء هو أمر جيد، وإن كان في حالة اختيار الوزيرة الفرنسية خجولاً. أما لماذا ذلك؟ فلأن العديد من الدول الناشئة التي باتت مؤثرة في الساحة الدولية، كانت تريد أن تغير ''القوانين'' غير المكتوبة في اختيار مدير صندوق النقد، وكانت ترى أن المتغيرات التي أحدثتها الأزمة الاقتصادية العالمية، كفيلة في المساهمة بتبديل هذه ''القوانين''، وأن معايير اتفاق ''بريتون وودز'' (وليد ما بعد الحرب العالمية الثانية)، ستنال من ''القوانين'' نفسها، وأن المؤهلات المطلوبة في مدير صندوق النقد، يمكن أن تتوافر عند غير الفرنسيين أو الأوروبيين أيضاً، وأن اختيار شخصية مؤهلة من غير الأوروبيين، سيسهم في تكريس أدبيات المنهج الذي اتبعته إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وأيدته الدول الغربية الأخرى، والذي عرف بمنهج ''الإشراك''.

وتمنيات الدول الناشئة وتوقعاتها بهذا الصدد، لا تنال بالضرورة من إمكانيات لاغارد، ولا من سمعتها الجيدة على المستوى العالمي، ولا من جديتها الاحترافية في العمل. فهي تتمتع بمزايا عديدة، لعل في مقدمتها معرفتها للثقافة الأنجلوسكسونية التي تمكنها من معالجة الاختلافات في ''الجسم'' الاقتصادي الغربي نفسه، في وقت لا يزال الاقتصاد العالمي يعاني فيه الهشاشة والضبابية. وعلى الرغم من أهمية تجربتها كوزيرة سابقة للزراعة والصيد البحري، ووزيرة منتدبة للتجارة الخارجية، وبعد ذلك وزيرة للاقتصاد، إلا أنها تستطيع أن تتباهى، بكونها وزيرة الاقتصاد الغربية، الأكثر فاعلية وجدية في مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. فهذه الأزمة ـ كما نعلم ـ باتت تشكل مؤشراً أساسياً لجودة المسؤول وخبرته وعدم اضطرابه، واختباراً لإمكاناته. وقد نجحت لاغارد بالفعل في وضع مخططات ناجعة، لإنقاذ العديد من اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، التي واجهت وتواجه مشاكل عميقة بسبب الأزمة، بما في ذلك إمكانية إفلاس دول بأكملها. وتكفي الإشارة هنا، إلى معالجتها المتأنية ـ لا العنيفة ولا المتهورة ـ مشاكل دول مثل البرتغال وإيرلندا واليونان. ولهذا السبب صنفت جريدة ''فاينانشيال تايمز'' البريطانية الرصينة لاغارد كأفضل وزيرة اقتصاد في منطقة اليورو لعام 2009. كما صنفتها مجلة ''فوربس'' الأمريكية الشهيرة، في المرتبة السابعة عشرة، ضمن الشخصيات الأكثر قوة ونفوذاً في العالم. ولعل من أفضل مزايا المديرة الجديدة لصندوق النقد الدولي، أنها تمتلك علاقات جيدة مع العديد من الشخصيات السياسية والاقتصادية المؤثرة في العالم، مما يوفر لها أرضية صلبة للعمل بعيداً عن المنغصات والمناوشات.

وفي مقال سابق لي نشرته تحت عنوان ''إلى مدير صندوق للنقد يمارس سياسة الاقتصاد لا اقتصاد السياسة'' (وهذا ـ بالمناسبة ـ أطول عنوان لمقال كتبته في حياتي)، وذلك في سياق إبراز مخاوف غالبية دول العالم، من استمرار ما تبقى من ممارسات سياسية داخل صندوق النقد الدولي. وكنت من الذين يعتقدون أنه من الضروري أن يأتي إلى هذا المنصب، ''مهني اقتصادي''، بمعنى أن يكون مدير أهم مؤسسة اقتصادية دولية، اقتصادي فقط. يشتغل في هذا المجال فقط. لا يعرف إلا المعايير الاقتصادية الخالصة فقط.. أن يكون مُعلِماً حراً في مهنته فقط. فزمن ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، يتطلب وجود تكنوقراط، لا سياسيين ساهموا بشكل مباشر، وبصورة بائسة، في تفجر الأزمة. فقد كانت السياسات الاقتصادية تُرسم وفق المعايير السياسية وحتى الحزبية في العديد من الدول التي تملك صنع القرار الاقتصادي العالمي.

يقول آفرين بول الكاتب والشاعر الأمريكي: ''الغالبية العظمى منا تستطيع قراءة المكتوب على الحائط. لكننا نعتبر أنه مكتوب لغيرنا''. في أغلب الأحيان كانت ممارسات صندوق النقد الدولي، تتماشى مع ما قاله بول. والسبب الرئيس أن القائمين على هذا الصندوق، كانوا يمارسون السياسة في القطاع الاقتصادي! وقد أفرز هذا السلوك الكثير من المشاكل، بدأت في غالبيتها صغيرة، وانتهت إلى الفشل في مواجهتها. نحن نظلم كريستين لاغارد، إذا ما حاسبناها فقط على انتماءاتها السياسية، لأنها ـ كما أشرنا ـ اقتصادية حرفية حقيقية. وأمام هذه الثنائية، على المديرة الجديدة للصندوق، أن تثبت لمن تبقى من المتشككين فيها، أنها ستمارس الاقتصاد لا السياسة، وأنها ستعمل على تكريس حراك إصلاح هذه المؤسسة الدولية الكبرى، وأنها ستأخذ في الاعتبار مخلفات وتداعيات الأزمة الاقتصادية، وأنها ستعمل على منح الاقتصادات الناشئة المزيد من الصلاحيات، وأنها ستتحرك لكي تحصل بعض الدول على تمثيل وظيفي، يوازي حجم مساهماتها المالية في الصندوق (المملكة العربية السعودية مثلاً) وأنها ستمضي قدماً في تنفيذ سياسة سلفها جوزيف ستراوس- كان، والتي تتمثل في تقديم الدعم المالي والتقني اللازمين للدول الفقيرة (ولا سيما الإفريقية منها) للنهوض باقتصاداتها.

لا أبالغ إن قلت: إن مهمة لاغارد هي أصعب مهمة لمدير لهذا الصندوق منذ تأسيسه، وذلك لأسباب عديدة، في مقدمتها، أن العالم تغير اقتصادياً من جراء الانفجار، لا بمعايير التغير الطبيعي، وأن الدول التي كانت هامشية سابقاً، لم تعد كذلك الآن، وأن سلوك الإقصاء الذي كان سائداً طوال أكثر من ستة عقود، بات مضحكاً في هذا الزمن، وأن الكبير التقليدي فقد الكثير من خصائص الكبر. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن الصين استطاعت في غضون عقد من الزمن، أن تتدرج في قائمة الدول ذات الاقتصادات الكبرى، لتصل إلى المركز الثاني. وهناك من يقول، إن هذه الدولة، ستتجاوز إلى المركز الأول في غضون عقد آخر من الزمن.

وأحسب أن كريستين لاغارد، تفهم هذه التحولات التاريخية الكبرى، وتفهم أيضاً، أن ما كان ينفع قبل الأزمة الاقتصادية الكبرى، لم يعد له مكان بعدها، وأن ''منهج الإشراك'' الذي أطلقه أوباما سياسياً وقَبِله الغرب، لن تكتمل عناصره إذا لم ينسحب على الاقتصاد أيضاً. وأحسب، أن لاغارد تفهم أهمية ''التوافق'' حولها في اختيارها لهذا المنصب. فالتوافق يضيف أعباء كبرى على الشخص المتوافق عليه، لأن المطلوب منه إرضاء المتوافقين، لا الأغلبية. وأحسب أيضاً، أن إرضاء الشرق الذي اكتوى بنار الغرب من جراء أزمة لا دخل له فيها، ستضع لاغارد على رأس قائمة أفضل مدير لصندوق النقد الدولي. وقتها سينسى من طالب بفك احتكار أوروبا والغرب لهذا المنصب، هذه المسألة، لأن النتائج الجيدة المبنية على قواعد مهنية، ستغلي أي انتقاد، خصوصاً إذا ما شمل منهج الإشراك كل شيء. وهذا المنهج يبني ثقافة إنسانية، لا وطنية ولا إقليمية .. وبالتأكيد لا نخبوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق