الأربعاء، 20 يوليو 2011

تبرعات «عفوية» للاقتصاد السوري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")








''دمر بذور الشر والظلم، وإلا ستترعرع وسط الخراب''
إيسوب - أديب وكاتب من العصر الإغريقي




  كتب: محمد كركوتــي
 
حسنا .. يقول المدافعون عن نظام بشار الأسد في سورية إن الاقتصاد ليس متدهوراً بالصورة التي يطرحها المراقبون المحايدون والتي يتفق معها المعارضون لهذا النظام. صحيح أنه يعاني حالياً آثار الثورة الشعبية السلمية العارمة (المدافعون عن النظام لا يعترفون بسلمية الثورة، بل لا يعترفون بوجودها أصلاً)، إلا أنه - أي الاقتصاد - ليس متجهاً نحو المجهول أو الانهيار. هكذا يقولون، وقد تعرضت شخصياً لهجوم عبر الإنترنت من هؤلاء، الذين تابعوا مقالاتي السابقة عن الاقتصاد السوري، ولا سيما المقال الأخير الذي نُشر تحت عنوان ''دراما اقتصادية في سورية''، وكان أقل اتهام وجه إلي منهم هو أنني لست محايداً، على الرغم من أنني استندت في طرحي إلى استنتاجات من أطراف محايدة، كان النظام يُعلن عن ثقته بها قبل الثورة الشعبية ضده، وتناولت مجموعة من الأرقام المعلنة في سورية - وهي قليلة بل نادرة - وتوصلت إلى تصور بأن الاقتصاد السوري يتجه بالفعل إلى المجهول، وأنه في غضون الأشهر المتبقية من العام الجاري سيصل إلى حافة الهاوية، وأن النظام سيعجز عن دفع مرتبات العاملين في القطاع الحكومي إذا لم تتبدل الأمور السياسية في البلاد، فالنفي لا يخفي الحقيقة فحسب، بل يزيد من حجم العقبات وأهوالها في الطريق نحو الخروج من المأزق.

في خطابه الثالث بعد الثورة استجدى بشار الأسد حتى ألف ليرة سورية (أي ما يوازي 20 دولاراً أمريكياً)، من كل مواطن سوري، من أجل إيداعها في المصارف التي تعصف بها الأموال الهاربة منها إلى الخارج، وتحديداً إلى لبنان. فقد بلغ مجموع الأموال الهاربة (الفاسدة والشرعية) من البلاد أكثر من 20 مليار دولار، حسب مجلة ''الإيكونوميست'' البريطانية العريقة، ولا يبدو في الأفق أي مؤشر على توقف عمليات الهروب والتهريب. والحقيقة أن أموال الناهبين وأموال المستثمرين الطبيعيين ''تحالفت'' من دون قصد في عمليات الهروب المتواصلة. ولأن المواطن السوري لم يلب تمنيات الأسد، بإيداع الـ ''ألف ليرة'' في المصارف، لأسباب باتت معروفة للجميع، من بينها شعور هذا المواطن بأنه سيغذي الآلة العسكرية والاستخباراتية التي تقتله وتقمعه، ولأن الـ ''ألف ليرة'' عند هذا المواطن، تساوي في هذه المرحلة بالذات مليون ليرة. ماذا فعل الأسد؟ قام باقتطاع قسري يبلغ 500 ليرة سورية من راتب كل موظف حكومي سوري، بحجة دعم العملة الوطنية، التي تهاوت بصورة درامية حقيقية، لتخسر - حتى الآن - أكثر من 22 في المائة من قيمتها! لم يحدث في التاريخ أن أقدم نظام على مثل هذه الخطوة، فهي بكل المقاييس عملية سرقة منظمة، وإن جنحت السلطات السورية إلى تسميتها ''التبرع العفوي''! وهذه هي الحالة ''العفوية'' الوحيدة التي يقوم بها شخص (أو جهة) بالنيابة عن الشخص المعني!

الليرة تتهاوى، والاستثمارات بعضها يفر من الساحة وبعضها الآخر يتوقف، والسياحة في عز الموسم بلغت صفراً. المواطنون السوريون لم يصدقوا ما أعلنه ''مصرفي'' النظام والعائلة المالكة الحاكمة في سورية رامي مخلوف، عندما قال قبل أكثر من شهر إن العملة الوطنية لن تخسر، وإن من ''مصلحة'' السوريين تحويل ما يملكونه من عملات صعبة - إن وجدت أصلاً - إلى الليرة، لأن هذه الأخيرة ستشهد ارتفاعاً كبيراً، لأن قيمة الدولار ستنهار قريباً مقابلها. ماذا فعل السوريون؟ قاموا بتحويل ما يملكونه من ليرات إلى عملات صعبة. وعندما يُقدِم - على سبيل المثال - بنك الكويت الوطني على وقف طرح أسهمه للاكتتاب العام في سورية، يعطي هذا مؤشراً جديداً لتردي الوضع الاقتصادي في البلاد، ولمزيد من علامات الانهيار الاقتصادي، سيضطر النظام السوري في موعد أقصاه نهاية العام الجاري إلى أن يبحث عن مساعدات خارجية، وإذا لم يستطع الحصول عليها - وهذا مرجح - لن يستطيع الادعاء بوجود اقتصاد ما في سورية. ربما يضمن الوعد الإيراني للنظام بتقديم أكثر من خمسة مليارات دولار له، وجود سند ما، لكن هذه الأموال لن تدفع لسند الاقتصاد الوطني، بل ستخصص لسند النظام نفسه. وكلنا يعلم العلاقة المصيرية التي ربط بها نظام الأسد نفسه مع إيران. وهذه الأخيرة، لا تقدم شيئاً لوجه الله، بل كل ما قدمته - خصوصاً لبعض الجهات العربية - مربوط بثمن سياسي باهظ التكاليف والخطورة أيضاً.

لا توجد خيارات أمام بشار الأسد على الصعيد الاقتصادي، تماماً كما لا توجد أمامه خيارات على الصعيد السياسي الداخلي والخارجي. والكل يعرف أن اقتصاد سورية لا يقوم على أسس معروفة كي يستطيع الصمود أمام المحن والأزمات، كان - ولا يزال - اقتصاداً أُسرياً خاصاً جداً، لا دخل للأسرة السورية المكونة للمجتمع ككل به. فلا غرابة إذن من سيطرة رامي مخلوف على 60 في المائة من حجم هذا الاقتصاد البائس، المملوء بالبطالة وسرقة المال العام والفساد بكل أنواعه. وكنت قد أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن هذا النوع من الاقتصادات لا يصمد أمام أرق الأزمات، فما بالنا بثورة شعبية عارمة لم تشهدها سورية حتى في ثمانينيات القرن الماضي. لا توجد في سورية أرقام حقيقية لأي شيء، حتى الأرقام الرسمية الشحيحة تصل إلى أعلى مستوى من التضارب والتناقض. ولا يعتمد أي مركز عالمي محايد على أي من هذه الأرقام، لأنها أكثر من مضللة، بل مضحكة في بعض الأحيان. لكن المعروف أن الاقتصاد لم يكتسب الصفة الوطنية، لأنه لم يكن مستنداً إلى المعايير الوطنية منذ أكثر من أربعة عقود. وكما هو الحال في منع المراقبين الدوليين ووسائل الإعلام المستقلة، من متابعة الأحداث في سورية لإخفاء حقيقة ما يجري على الأرض، كذلك الأمر في منع صدور أرقام حقيقية عن اقتصاد البلاد. إنهم يريدون إخفاء ما أمكن لهم من واقع الخراب الاقتصادي الشامل.

في كل الأحوال تتجه الأمور في سورية نحو عصيان مدني، وبدأت بوادر هذا العصيان في امتناع المواطنين عن تسديد فواتير المياه والكهرباء والهاتف، وهناك أعداد متعاظمة من أولئك الذين يمتنعون عن دفع الضرائب. وهذا الأمر سيعجل من مسيرة الاقتصاد السوري نحو الانهيار، أو في أحسن الأحوال نحو حافة الهاوية. والنظام يعرف أنه لن يستطيع الاستمرار على هذا الشكل إلى ما لا نهاية. ويعرف أيضاً أن عصياناً مدنياً مهما كان ''لطيفاً''، سيدفع الأمور في اتجاه معاكس لمصالحه. وهو - أي النظام - يخشى حالياً من عجزه عن دفع رواتب موظفي الحكومة. وقتها سيتحول العصيان ''اللطيف'' إلى عصيان لا توجد قوة في العالم تستطيع الوقوف أمام ضرباته. سيكون بمنزلة المكون الأكبر لتحول الأمة بأكملها. وما على المعارضين والمؤيدين سوى استرجاع التجارب التاريخية المشابهة، وهي كثيرة وعميقة في مغزاها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق