الثلاثاء، 25 يوليو 2017




الديون السيئة اليوم .. ديون أسوأ غدا





"لا يمكن أن تكون مدينا وتنتصر" 
ديف رامزي رجل أعمال ومؤلف أمريكي


كتب: محمد كركوتي 

      لا أحد في هذا العالم منيع عن الديون، سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات. وهذه حقيقة تكرست في الواقع في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت الديون مبررة في أعقاب الحروب والاضطرابات، ولا سيما تلك التي تنال من البنى التحتية للاقتصاد (أي اقتصاد)، فإن استمرارها في فترات الاستقرار والازدهار أو الهدوء يبدو غريبا، خصوصا تلك الديون الاستهلاكية مرتفعة المخاطر، علما بأن هناك ديونا ذات قيمة إيجابية بالفعل، وهي تلك التي تصب في التنمية المستدامة، غير أن التاريخ يحتضن تجارب مخيفة في هذا المجال. فغالبية الأزمات الاقتصادية الكبرى تستند في الواقع إلى انفجار قنبلة الديون. ولكيلا نذهب بعيدا، هذه الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008، تؤكد هذه الحقيقة. 
      السبب (كما يعرف الجميع) كان واضحا في الأزمة المشار إليها، وهي تراكم الديون العقارية السيئة والاستهلاكية القاتلة على الأفراد، وكذلك ارتفاع العجز المالي للحكومات في غالبية بلدان العالم، بما فيها تلك التي تتسيد المشهد الاقتصادي العالمي. ورغم نجاح "حرب" ما بعد الأزمة على مثل هذه الديون، من خلال تشريعات وتطبيقات إجرائية، وإلغاء بعض المشتقات المالية، وفرض رقابة شديدة على ما بقي من مشتقات، رغم هذا استمرت الحكومات في الاقتراض. 
      وإذا كانت القروض الشخصية تمس الفرد مباشرة، فإن القروض الحكومية تمسه أيضا بصورة غير مباشرة، بل تنال في بعض حالاتها من مستقبل الأجيال القادمة. وكل قرض لا يتم سداده هو في الواقع دين على أجيال من البشر لم تولد بعد! يقول بول كروجمان البروفيسور والعالم الاقتصادي الأمريكي "الدين هو مسؤولية شخص، لكنه أصل من أصول شخص آخر". وهو اختصر بالفعل المشهد العام للدين بصرف النظر عن طبيعته وحجمه وأهدافه. في عشر سنوات فقط زاد حجم الدين العالمي 75 تريليون دولار، ليصل (وفق المؤسسات المالية العالمية) إلى 217 تريليون دولار. 
      وهذا الدين يعني أن كل إنسان على سطح الأرض، أكان رجلا أم امرأة أم طفلاـ مدين بنحو 29 ألف دولار، بحسب المنظمات الدولية المعنية. وإذا لم يتم حل مشكلة هذه الديون الهائلة، فهي في الواقع ستتضاعف ليتحملها الجيل القادم وهكذا. بعض أصحاب الآراء المتطرفة يشرحون الأمر بالصيغة التالية "الجيل الحالي يسرق الجيل الذي لم يولد بعد". أي أن الأعباء على هذا الأخير ستكون "جاهزة" عندما يفتح عينه على هذه الحياة. المروع في الأمر، أنه خلال الأزمة الاقتصادية العالمية بلغ حجم الدين 142 تريليون دولار منها 16 تريليون دولار هي مجموع ديون البلدان الناشئة، قبل أن يصل المجموع الكلي إلى 217 تريليونا. 
      واستنادا إلى آخر الإحصاءات، فقد بلغت ديون الاتحاد الأوروبي 97.7 تريليون دولار، ودين الولايات المتحدة نحو 63 تريليون دولار، وبريطانيا 2.2 تريليون دولار. أما ديون الأسواق الناشئة منها فبلغت 56 تريليون دولار، منها 33 تريليون دولار حجم الدين العام الصيني و3.6 تريليون دولار حجم الدين البرازيلي، و2.9 تريليون دولار حجم الدين الهندي، و500 مليون دولار فقط حجم الدين العام الروسي. وللمقارنة فقط، فقد بلغ حجم الدين العام العالمي في عام 1996 نحو 63.4 تريليون دولار. 
      صحيح أن البلدان المتقدمة يمكنها السيطرة على ديونها من خلال قوة وارتفاع حجم إنتاجها، إضافة إلى الثقة المالية العالمية بها، لكن الصحيح أيضا أنه لا توجد ضمانات دائمة في هذا المجال. فعندما يتجاوز حجم الدين في بعض البلدان الناتج الإجمالي المحلي مرة، وأحيانا مرتين، ترتفع معدلات المخاطر أكثر. في حين أن أسواق السندات والأذونات ظلت منتعشة في مراحل الازدهار والكساد أيضاّ! بالطبع لا أحد يشكك (على الأقل الآن) في قدرة دولة كالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا على الوفاء بديونها. غير أن ما يمكن وصفه بـ"الانفلات" المالي بدأ يظهر على الساحة بعد سنتين فقط من انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية. دون أن ننسى مخاطر ديون الصين (ثاني أكبر اقتصاد في العالم)، التي ستضرب الاقتصاد العالمي، لمجرد حدوث تباطؤ اقتصادي قوي فيها. 
      لا توجد في الأفق أي إشارات على تراجع وتيرة الدين العالمي. في الواقع تستهل كثير من الحكومات الاقتراض الخطير أحيانا، بدلا من البحث عن مصادر مالية أخرى تعزز التنمية المستدامة. والمؤكد هنا يبقى حاضرا دائما، ويرتبط مباشرة بحقيقة أن الديون السيئة اليوم، هي ديون أسوأ غدا، وهي عبء على "أبرياء" لا دخل لهم بفوضى الاقتصاد العالمي، سواء قبل الأزمة العالمية أو بعدها. كما أنه لا علاقة لهم باستسهال الحلول المالية عن طريق الاقتراض. إنها مصيبة تختص بكل فرد يعيش الآن وسيعيش في الغد. أي أنها من تلك المآسي المتجددة، خصوصا عندما تخرج عن السيطرة هنا وهناك.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق