الثلاثاء، 11 يوليو 2017



الممرات «المختنقة» تهدد الغذاء



«الحضارة التي نعيشها اليوم، لم تكن لتتطور أو لتنجو دون إمدادات غذائية كافية» 
نورمان بورلونج مهندس زراعي وناشط إنساني أمريكي راحل 

كتب: محمد كركوتي

أعادت منظمات وجهات دولية مختلفة مسألة الإمدادات الغذائية العالمية إلى الواجهة، وكانت آخرها دراسة لافتة أجراها معهد "تشاتام هاوس" للأبحاث في لندن. وهذه المرة ليس من زاوية الأزمات الزراعية، ولا من التخلف في هذا القطاع الحيوي في بعض المناطق، ولا حتى من جهة نقص المياه اللازمة للإنتاج الزراعي، بل من ناحية الآليات والمعابر المستخدمة لإتمام هذه الإمدادات. وعلى الرغم من أن الإمدادات الغذائية شهدت تحسنا في الأعوام الماضية، من خلال نجاح سلسلة من البرامج العالمية والمحلية في غالبية مناطق العالم، فضلا عن اهتمام الحكومات بهذا الجانب، إلا أن ذلك لم يصنع الأمان التام لإمدادات الغذاء، خصوصا على الجانب الخاص بالنقل والمرور عبر مناطق حساسة أو ملتهبة، إضافة طبعا إلى أن التغير المناخي يسهم بصورة مباشرة في تعطيل أو تأخير الإمدادات الموجودة أصلا! وفي حين تحدد الجهات المهتمة بهذه المسألة 14 نقطة اختناق "كما وصفتها"، إلا أن بعض الجهات المعنية في الأمم المتحدة (مثلا) زادت هذا العدد. ما يعني أن القضية ليست أزمة عابرة، أو مرحلية أو موسمية، بل مشكلة تتعاظم يوما بعد يوم. لماذا؟ لأنه لا يوجد على الساحة تحرك يذكر لمواجهتها أو معالجتها. ويبدو أنها أزمة ستتفاقم في ظل التقاعس الحالي، مثلما تفاقمت أزمات في قطاعات أخرى على مدى عقود، للسبب ذاته. وعلى هذا الأساس تتحرك جهات عدة من أجل وضع القضية على رأس الأولويات، لأنها تختص بالغذاء الذي يشكل محورا رئيسا للاستقرار، خصوصا أن تعاظم نقاط اختناق إمدادات الغذاء، لا يعني النقص في المنتج الغذائي فقط، بل يعني أيضا ارتفاعا تلقائيا للأسعار، وهو أمر لا تتحمله أي حكومة في العالم على المدى البعيد، بصرف النظر عن مدى ملاءتها المالية. مناطق الاختناق هذه متعددة، من بينها نقاط حساسة مثل قناة السويس وموانئ البحر الأسود، وطرق النقل في دولة ضخمة كالبرازيل. وكلها "بحسب تشاتام هاوس" تتعرض لانقطاعات كثيرة الحدوث. والخطير في هذا الأمر، أن البضائع الغذائية التي تمر عبر نقاط الاختناق تشمل مواد أساسية مثل الذرة والأرز وفول الصويا وزيوت الطعام والسكر وغيرها. وارتفاع أسعار هذه المواد يضرب مباشرة الناس العاديين في كل بلدان العالم، بما فيها البلدان المتقدمة. كما أن هذه المواد تعد على نطاق عالمي، مواد "غذائية استراتيجية". وكما هو معروف، تقوم حكومات عديدة بدعمها نظرا لمحوريتها المعيشية لشعوبها. ولذلك، تتعاطى الجهات المهتمة بأمر "الاختناقات" مع هذه القضية من جانب المخاطر القابلة للتفاقم في أي لحظة، مع تداعيات عالية الخطورة أيضا. المثير في الأمر، أن تجارة الأسمدة تمر هي الأخرى بأكثر من نصفها عالميا عبر الممرات "المختنقة". أما الأمر الأكثر إثارة، فإن عددا من البلدان المتقدمة تعاني مشكلات في شبكات النقل المحلية. وعلينا أن نتخيل الأمر في بلدان أقل تقدما أو فقيرة، وكيف تعاني الإمدادات الغذائية ضمن نطاقها الجغرافي تعطيلا واضطرابا حتى أضرارا للأطراف المعنية. بمعنى، أن الأزمة لا تنحصر فقط في نقاط عبور دولية محورية معروفة، بل أيضا في شبكات نقل محلية تزيد من فداحة المشكلة. ومرة أخرى لا توجد استراتيجية واضحة على الصعيد العالمي، لتأمين نقاط العبور، بما في ذلك تلك التي تقع في مناطق مضطربة أصلا، كما أنه لا توجد مساع على مستوى رفيع للوصول إلى اتفاق عالمي بإبعاد النقاط الاستراتيجية المشار إليها عن أي تأثير للصراعات والاضطرابات. لا يمكن التهوين من هذه الأزمة المتفاقمة. فقد حدثت في غير منطقة من هذا العالم اضطرابات بفعل نقص الإمدادات الغذائية الرئيسة، أو من جراء ارتفاع أسعارها، ولا سيما تلك المرتبطة بقطاع الحبوب. ويرى باحثون، أن المخاطر التي تشكلها نقاط الاختناق تتزايد مع تنامي حجم التجارة العالمية، ولكنهم يشيرون في الوقت نفسه إلى نقطة مهمة تتعلق بارتفاع حرارة الأرض أيضا. فالتغير المناخي "كما هو معروف" يسبب مزيدا من العواصف والجفاف ومواسم الحر القاتل. بمعنى، أن المشكلة ناتجة عن مجموعة عوامل، يمكن تلخيصها بالتالي، تخلف شبكات النقل في بعض الدول، ومخاطر تهدد نقاط العبور الدولية، والتغيير المناخي الذي أصاب كل شيء على وجه الأرض. ناهيك عن التعطل الذي يصيب تجارة الأسمدة بين الحين والآخر. في مثل هذه القضية، لا مناص من التحرك السريع، والأهم لا بد من وجود تعاون عالمي على نطاق واسع، بما في ذلك تقديم المساعدات اللازمة لبعض البلدان التي تعاني تخلف شبكات النقل، إضافة طبعا إلى المسألة الأهم، وهي ضمان دولي شامل لنقاط العبور العالمية. ولن يتم هذا إلا بالاعتراف بهذه المصيبة المتفاقمة، والتعاون الحقيقي حتى بين البلدان التي لا تنسجم مع بعضها بعضا.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق