الثلاثاء، 18 يوليو 2017




التجارة «الاستثنائية» من أجل التنمية



"أنا مدافع قوي عن التجارة الحرة" 
نجيب رزاق، رئيس وزراء ماليزيا 


كتب: محمد كركوتي

      أبرزت عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، جانبا مهما من العلاقات المستقبلية للمملكة المتحدة مع البلدان النامية. وهذا الجانب ليس عابرا، بل هو في صلب عملية التنمية والبناء في البلدان المشار إليها، ويتعلق بالتسهيلات والإعفاءات الجمركية التي توفرها البلدان المتقدمة للدول النامية. وهذه النقطة على وجه الخصوص، تعد في المفهوم الجديد للتنمية في الدول الفقيرة حجر الزاوية، وهي تفوق المساعدات المالية والعينية والمعونات بأشكالها المختلفة أهمية على صعيد بناء اقتصادات ذات صفة مستدامة في هذه الدول. والحق، أن حكومات البلدان المتقدمة تأخرت كثيرا في الوصول إلى النتيجة النهائية، بأن المساعدات الحقيقية هي تلك التي توفر تسهيلات لواردات الدول النامية، فهي بذلك توفر عوائد مالية من العملات الصعبة، وفي الوقت نفسه تعزز الإنتاج المحلي. طمأنت بريطانيا منذ الأيام الأولى لبدء مفاوضات خروجها من الاتحاد الأوروبي، الدول النامية بأنها ستواصل تطبيق دخول السلع الواردة من نحو 50 دولة نامية إلى أسواق المملكة المتحدة بلا جمارك بعد خروجها الفعلي من الاتحاد. وهذا موقف مهم للغاية، ليس فقط للبلدان النامية المعنية، بل أيضا لالتزامات لندن الدولية. وهي بذلك تسعى إلى تأكيد دورها عالميا، في الوقت الذي تشكك فيه بعض الجهات (بما في ذلك جهات بريطانية) بمصير هذا الدور. 
      ويحاول الحريصون على مكانة بريطانيا بعد الخروج، أن يؤكدوا (بصور مختلفة) هذه المكانة، خصوصا في ظل عامين من المفاوضات الشاقة التي لا أحد يعرف نتائجها الحقيقية بالفعل، بمن فيهم المفاوضون أنفسهم. تقوم بلدان الاتحاد الأوروبي منذ عدة سنوات باتباع سياسة تسهيل الواردات من البلدان النامية، كنوع من التنمية، بعد أن ثبت أن المساعدات المباشرة لعدد ليس قليلا من الدول النامية لم تحقق الأهداف المرجوة منها، بفعل الفساد المحلي أولا، وعدم وجود مشاريع تنموية طويلة المدى، يضاف إلى ذلك الاستثمارات العقيمة التي تذهب في غالبيتها هباء جراء القوانين والإجراءات والممارسات غير المعقولة في كثير من الأحيان في البلدان النامية المستهدفة. وفي الأعوام الماضية، حققت سياسة تسهيل الواردات نتائج باهرة، خصوصا في مجال الزراعة، وقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة. ووفرت هذه السياسة عملات صعبة ضرورية لهذه البلدان، في الوقت الذي دأبت فيه البلدان المتقدمة على رفع مستويات التسهيلات بل والترويج للمنتجات المشار إليها. 
      وباستثناء الأسلحة والذخائر والنفط، فإن كل المنتجات (تقريبا) في البلدان النامية تحظى بالمعاملة التجارية الخاصة، وفي مقدمتها بالطبع الإعفاءات الجمركية. ووجدت السياسة المشار إليها دعما بلا حدود من جانب منظمات الأمم المتحدة المعنية بالتنمية في البلدان النامية والفقيرة. وأصدرت هذه المنظمات سلسلة من الدراسات والتحقيقات الاستقصائية أظهرت جميعها نجاعة ما يمكن تسميته "التجارة من أجل التنمية". والحق أن بريطانيا كانت من أوائل الدول التي تمضي قدما في هذا الطريق، ووفرت الأرضية اللازمة، حتى إن منتجات البلدان النامية تحظى على أرفف المحال التجارية في المملكة المتحدة بامتيازات الترويج، مقارنة بغيرها من المنتجات المشابهة القادمة من بلدان أكثر تقدما أو تلك من البلدان المتقدمة. وتمكنت حكومات الدول المتقدمة في الفترة الأخيرة من الوقوف في وجه الحملات الوطنية المحلية فيها ضد تسهيل وترويج البضائع القادمة من الدول النامية. واستطاعت أن تطرح معادلة فيها جوانب اقتصادية وخيرية في آن معا، ما دعم موقفها، خصوصا أن بعض المنتجات المحلية في البلدان المتقدمة تلقى دعما مباشرا أو غير مباشر هي الأخرى من حكوماتها. وفي فترة ليست طويلة، بات واضحا القبول بمبدأ "التجارة من أجل التنمية" على الصعيد المحلي. وعلى الساحات الأخرى في المقابل، نشأ حراك اقتصادي تنموي حقيقي، مع ضمان وصول المنتجات إلى الأسواق المتقدمة، بل إن مشاريع خاصة بالأمم المتحدة (ولا سيما تلك التي تستهدف القطاع الزراعي) وفرت مساعدات عملية مباشرة أيضا لنقل الحراك من مرحلته الأولى، إلى مرحلة التمكين. 
      في النصف الأخير من القرن الماضي، أبدى عدد من المسؤولين المخلصين حقا في بعض البلدان النامية الرغبة الجامحة من أجل الوصول إلى "التنمية عبر التجارة"، وقد فشلت محاولاتهم بالفعل لأسباب كثيرة في مقدمتها أن البلدان المتقدمة وتلك التي تقدم المساعدات المباشرة لم تكن لديها في الواقع مشاريع تنموية محددة، وكانت تستسهل تقديم المساعدات على توفير المعونة عن طريق التجارة وفق مخططات طويلة الأمد. ناهيك عن المشاكل التي واجهتها الحكومات من المنتجين الوطنيين في بلادها، الذين اعتبروا أنها تعمل ضد مصالحهم. لكن الأمر تغير مع إقدام كثير من الدول المانحة باتجاه السياسة التي تمت المطالبة بها حقا قبل عقود. ومن هنا، لم يعد غريبا أن ترى منتجات البلدان النامية متقدمة من حيث العرض على منتجات الدول الأخرى، كما أنها تتسم بميزة انخفاض أسعارها. 
      ستقوم بريطانيا بدورها في هذا المجال خارج الاتحاد الأوروبي، فالالتزام كان وطنيا قبل أن يكون أوروبيا. ودول الاتحاد لا نية لها في مراجعة هذه السياسة، بل على العكس تماما تمضي بخطوات جديدة من أجل التمكين الذي يسهم مباشرة في بناء اقتصادات مستدامة في الدول النامية والفقيرة.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق