الخميس، 6 نوفمبر 2014

المهاجرون الأوروبيون أقوى من كاميرون

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الأمة التي لا تستطيع السيطرة على حدودها، ليست أمة"
رونالد ريجان، رئيس أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي


يجهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون نفسه منذ أشهر، لإقناع البريطانيين الخائفين من المهاجرين، بأنه حازم في هذه المسألة، وأنه سيتخذ سلسلة من الإجراءات للحد من الهجرة، وقبل أقل من عام على الانتخابات البريطانية العامة، يتجه كاميرون نحو اليمين أكثر وأكثر، بحجج عديدة، لعل أبرزها، أنه لا يريد للحزب القومي البريطاني أن يحصل على مكاسب انتخابية. وهذه حجة فيها من المكر أكثر مما فيها من الحقيقة. مع التأكيد أن الحزب القومي المشار إليه، كغيره من الأحزاب القومية الأخرى، التي لا تنظر للأمور (مهما بلغ تشعبها) إلا من خلال عينها الخاصة، والخاصة جدا. ولذلك، فهي توفر الحجة الأقوى لكاميرون، خصوصا بعد أن حقق الحزب القومي بالفعل، مكاسب محلية في الآونة الأخيرة.
لكن الأمور لا تجري كما يشتهي رئيس الوزراء البريطاني. فهو لا يستهدف فقط المهاجرين القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، بل يضع المهاجرين الأوروبيين أنفسهم في دائرة "الحرب" على الهجرة بصورة عامة. وهنا تكمن مشكلته. فأي تغيير في القوانين الخاصة برعايا الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن يتحقق إلا بموافقة الاتحاد نفسه. فمثل هذه التغييرات تنال مباشرة من القوانين التي اتفقت عليها كل دول الاتحاد. يضاف إلى ذلك، أنه لو سار بالفعل في طريقه نحو التغيير، فالأمر يتطلب وقتا طويلا جدا، لحسمه. ولن يحسم مثل هذا الأمر إلا بشيء واحد فقط، وهو خروج المملكة المتحدة نفسها من الاتحاد الأوروبي. وقد وعد كاميرون بالفعل البريطانيين، أنه سيطرح موضوع عضوية بلاده في الاتحاد على استفتاء شعبي عام، في حال نجح حزب المحافظين الذي يتزعمه في الانتخابات العامة المقبلة.
قبل أيام، تلقى كاميرون الضربة الكبرى حتى الآن في سعيه لوقف تدفق المهاجرين الأوروبيين إلى بلاده. لقد قالت له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوضوح، إنها لن تؤيد فرض قيود على حرية تنقل العمال داخل الاتحاد الأوروبي. وكانت أوضح من ذلك حين قالت "ألمانيا لن تعبث بالمبادئ الأساسية لحركة التنقل في الاتحاد الأوروبي". والموقف هو نفسه لدى بقية قادة الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم أولئك الذين لا يحبون المهاجرين. فالنظام الأوروبي اكتسب قوة متزايدة على عقود، بحيث سحب الكثير من الصلاحيات وبعض أدوات صنع القرار من الدول المنضوية تحت لوائه. ورغم أن مساعي كاميرون، لا تستهدف منع المهاجرين الأوروبيين من دخول بلاده، بل العمل على وضع حد أقصى لأعدادهم (ولاسيما أولئك الذين يصنفون بـ "محدودي المهارة")، إلا أن الفكرة مرفوضة من أساسها من مؤسسات الاتحاد. فهذا الأخير أقيم لضمان حرية التنقل بين دوله. وحرية التنقل هذه ترتبط مباشرة بالاقتصاد والتنمية.
في عام 2004، وصلت نسبة المقيمين في بريطانيا الذين ولدوا خارجها إلى 9 في المائة. وهذا العام بلغت النسبة 12 في المائة. وقبل 20 عاما، كان أغلب هؤلاء من أصول هندية وباكستانية وكاريبية. لكن الأزمنة تتغير، وتتغير معها الأوضاع. اليوم، يصل عدد الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة إلى أكثر من 2.5 مليون نسمة، أغلبهم (بالطبع) من دول أوروبا الشرقية، والعدد الأكبر من هؤلاء جاؤوا من بولندا، وتقدم عدد البولنديين حتى على عدد الباكستانيين الذين يشكلون النسبة العليا من المهاجرين في البلاد. وإذا كانت هناك مصاعب أمام الآسيويين بشكل عام للوصول إلى بريطانيا، فإن الأمر ليس كذلك على الإطلاق بالنسبة للقادمين من أوروبا.
وبعيدا عن حسابات كاميرون الانتخابية، التي يعتبرها البعض خرقاء، لأنه لا يستهدف الناخبين المترددين، بل الناخبين المتطرفين. فإن وعوده حول مسألة المهاجرين الأوروبيين لا قيمة لها. لماذا؟ لأن تحقيقها يتطلب إصلاحا شاملا لقواعد وقوانين الاتحاد الأوروبية، وهذا يعتبر من المستحيلات السياسية الأوروبية. ليس لأن القوانين لا تعدل، بل لأن الدافع لها يستهدف كينونة الاتحاد نفسه. ظلت بريطانيا خارج اتفاقية "شنجن"، لكن وضعيتها هذه لم توفر لها حصانة من مهاجري أوروبا على وجه الخصوص. والحق، أن معظم المهاجرين الأوروبيين الذين قدموا إلى بريطانيا تحتاج إليهم البلاد من ناحية الخدمات والمهن المختلفة. وليس هناك توصيف واضح للمهاجر الذي يتمتع بالمهارة. لقد استخدم حزب المحافظين الحاكم هذا لدعم توجهاته المشار إليها فقط.
سيمضي ديفيد كاميرون إلى النهاية في حربه على مهاجري أوروبا. لكن لن يصل إلى غاياته على الإطلاق، على الأقل قبل الانتخابات العامة التي ستجري في أيار (مايو) من العام المقبل. وكما كاد يغرق بالاستفتاء الذي وعد به ونفذه حول استقلال اسكتلندا، ربما سيغرق في الاستفتاء الشعبي الذي وعد به حول وجود بريطانيا نفسها في الاتحاد الأوروبي، متجاهلا تحذيرات قادة الأعمال في المملكة المتحدة، بأنها خطوة خطيرة ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل والاقتصادي في الدرجة الأولى. لقد أثبت تاريخ الاتحاد الأوروبي، ومخرجاته الاقتصادية، أن بريطانيا الأوروبية، أفضل بكثير من بريطانيا البريطانية.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق