الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

الولايات المتحدة الأمريكية «النامية»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«رأيت طفلاً وليداً تحوم حوله الذئاب»
بوب ديلان، شاعر ومغن أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

يستحق الرئيس الأمريكي باراك أوباما ''كأس العالم''، باعتباره الرئيس الأكثر شرحاً لأشياء لا يقوم بها! وهو أيضاً يستحق جائزة عالمية أخرى، كرئيس يُجبر بقوة المُضرب عن الطعام ليأكل، دون أي اهتمام بالأسباب التي قادته للإضراب! هو أكثر الرؤساء الذين مروا على البيت الأبيض، حرصاً على نهاية خدمة رئاسية مضمونة، الأمر الذي يُغيِب عنه مسؤولياته كرئيس لأكبر دولة في العالم، ويحوله إلى موظف كبير، ينتظر تقاعده المضمون يوماً بيوم. قد ينفع أوباما مديراً لمصرف مهمته الرئيسة، أن يقول لا لأي شخص يسعى للحصول على قرض، مهما كان هذا القرض ملائماً، أو حتى مستحقاً. وهذه أهون المهام لكل المناصب. لقد فضل الرئيس الأمريكي الجانب الأسهل في الإدارة، على الرغم من أن هذه السلوكيات الإدارية، تنال بصورة مهينة من القدرات الإدارية. ولهذا السبب، لا تنقطع المناكفات والخلافات داخل إدارة أوباما نفسها. فالفريق يريد أن يعمل، والرئيس يريد أن ''يضمن'' دون عمل!
يقول محبو الرئيس الأمريكي ''اللذيذ''، إنه ابتعد عن الساحة الدولية من أجل الساحة الداخلية! ورغم أنه لا يحق لرئيس الولايات المتحدة هذا الابتعاد، لأسباب معروفة للجميع، ولا سيما تركه الساحة الدولية لـ ''أزعر'' روسيا ليقرر السياسة وفق معايير المافيات، إلا أن أوباما لم يحقق نجاحاً يتناسب مع انكبابه على الشأن الداخلي. ولهذا السبب وغيره، انصرف إلى شرح الأشياء، ولا بأس من التبريرات معها على إخفاقات، ما كانت لتحدث، لو أنه ارتضى أن يكون صانع قرار بعيد عن اعتبارات، ستختصر حجم البوابة التي سيدخل منها إلى التاريخ. فإذا أراد تقزيم دور بلاده خارجياً، بحجج ساذجة، عليه أن يرفع من شأنها على ساحتها الداخلية. الذي حدث، أن ما حققه داخلياً، جاء أقل بكثير من تكاليف تخلصه الطوعي من إرادته كصانع قرار، ومن إرادة البلاد على الساحة الخارجية.
يعيش اليوم في الولايات المتحدة 46 مليونا تحت خط الفقر. ورغم أن خط الفقر في هذه البلاد، أعلى بما لا يمكن مقارنته بغيرها من البلدان الفقيرة، إلا أنه يمثل عاراً على أوباما، وفق المعايير الأمريكية، وليس الإفريقية أو الآسيوية. هذا العدد الذي يمثل 15 في المائة من مجموعة سكان البلاد، يماثل إجمالي عدد سكان دولة كإسبانيا! ويقل بصورة طفيفة عن عدد سكان أوكرانيا! لم يقلل الرئيس الأمريكي ''المتخصص في الشؤون الداخلية''! عدد الذين يعيشون تحت هذا الخط، على الرغم من عدم انشغاله بالخطوط الحمراء التي حددها لسفاح سورية بشار الأسد. اكتفى بالحديث عن هذه الأخيرة كـ ''مُنظر'' لا كمنفذ. وكعادته، أسهب في شرحها بمناسبة وغير مناسبة، دون أن يقوم بها. الذي حدث، أنه ترك لـ ''سيد'' العالم حالياً فلاديمير بوتين مهمة تغيير اللون، من أحمر إلى أبيض! بل إن هذا الأخير (في بعض المواقف)، رسم الخط الأحمر لأوباما نفسه!
الأثرياء في الولايات المتحدة، ازدادوا ثراءً، والفقراء ازدادوا فقراً مدقعاً. هذه المعادلة المريعة في كل مكان، أتى أوباما أساساً لتعديلها. أو هكذا قال شارحاً إلى حد الملل. عتبة الفقر الرسمية في الولايات المتحدة تبلغ 11702 دولار سنوياً للفرد، و23201 دولار لعائلة مكونة من أربعة أفراد. وعلى هذا الأساس، فإن مستوى الفقر في البلاد يبلغ - حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية - 11 في المائة، بينما يصل أعلى متوسط لدى المنظمة نفسها 6 في المائة. وهذا يعني أن أوباما فشل حتى في خفض الفقر وفق المعايير التي تضعها منظمات دولية. علماً، بأن هناك دائماً فروقات بين تقديرات ومعايير المنظمات، وحقائق الوضع على الأرض. مع ضرورة الإشارة هنا، إلى أن المؤسسات الأمريكية المحلية تضع الأمريكيين تحت خط الفقر عند نسبة 15 في المائة. وسواء كانت هذه النسبة أو غيرها، فإن الرئيس الأمريكي، أخفق في أهم واجب أوكله لنفسه.
نسبة من الفقراء الأمريكيين لا تزال تحمل ''وول ستريت'' مسؤولية معاناة الفقراء أجمعين في البلاد. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً، أن أوباما فشل أيضاً في إيجاد ''كابح'' سريع لمتنفذي السوق الأمريكية. وكانت معركته مع هؤلاء متقدمة في بداية ولايته، لكنها لم تلبث أن تراجعت، أو أصابها الوهن. وهذا يفسر الارتفاع في عدد الفقراء الأمريكيين، في السنوات الماضية. ولا يزال الرئيس ''المتخصص'' في الشؤون الداخلية لبلاده، يستجدي المؤسسات التشريعية لرفع سقف الدين العام، وأبقى أخيراً على برنامج التحفيز.
غير أن هذا كله لم يحقق أي هدف على صعيد الحد من معدلات الفقر في البلاد، الذي يبقى فقراً عنصرياً بتركيبته. وحسب مركز التعداد السكاني الأمريكي، فإن نسبة الفقر بين البيض من غير الأصول اللاتينية، تصل إلى 2,19 مليون نسمة، ومعدلات الفقر هي الأعلى بين الأقليات. وماذا أيضاً؟ يعيش أكثر من ربع السكان من أصل زنجي أو لاتيني في حالة فقر، في حين تنخفض تلك النسبة إلى 10 في المائة من البيض. هل هي الولايات المتحدة الأمريكية ''النامية''؟

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

«اقتناص» المهاجرين.. كسب اقتصادي أناني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«تذكر.. تذكر دائما، أننا جميعاً، أنت وأنا على وجه الخصوص، وُلدنا هنا من مهاجرين وثوريين»
فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الراحل


كتب: محمد كركوتــي

في بعض الحالات تتماهى وضعيتا المهاجر واللاجئ، مع ملاحظة أن حالة النازح قد تتطور إلى الحالتين السابقتين، أو إحداهما، بصرف النظر عن تمسك الجهات المسؤولة حول العالم بهذا التأطير. هي تحرص على هذا النوع من التأطير، لأسباب تتعلق بمسؤولياتها وواجباتها حيال الحالات الثلاث. فلكل حالة التزامات مختلفة، وبالطبع أي جهة معنية تفضل الحالة الأقل تكلفة (بل الأدنى تورطاً) على المديين القريب والبعيد. لكل حالة تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.. ولها منغصاتها. والتكاليف الاقتصادية هنا لا تنحصر فقط في المانح، بل تشمل نسبة من الممنوحين أنفسهم. ولا سيما من خلال تشغيلهم بأكثر من حقوقهم، أو ''سرقتهم'' من أوطانهم المحتاجة إليهم. علينا فقط أن ننظر إلى فلسطين المحتلة، من هناك جاء التطور. نازح أولاً، لاجئ ثانياً، مهاجر ثالثاً، ولا بأس من مواطن أخيراً. البعض يعتبره تطوراً جيداً، استناداً إلى المعايير الاقتصادية والمعيشية، أما البعض الآخر فيرى عكس ذلك تماماً، ويحمل القوى الفاعلة المسؤولية.
على كل حال، تبقى قضية النازحين واللاجئين، مأساوية بصورة لا تُقارن مع مسألة المهاجرين، أو مع أي قضية اجتماعية معيشية أخرى، باستثناء تلك التي شهدها العالم على مدى سنوات، واستحقت عنواناً عريضاً هو ''الموت جوعاً''. حسب الأمم المتحدة، هناك 232 مليون مهاجر حول العالم. وهؤلاء أكثر من عدد النازحين واللاجئين، وهم يشكلون ما يقرب من 3,2 في المائة مع المجموع الكلي للبشرية. ويقيم هؤلاء بصورة رئيسة في أوروبا وآسيا. هذا العدد من المهاجرين يقارب عدد سكان إندونيسيا، ويفوق سكان البرازيل عدداً. وفي غضون عقد واحد، أضيف لأعداد المهاجرين 21 مليوناً. وحسب التوقعات التي تستند إلى أسس علمية، فإن عدد هؤلاء سيشهد ارتفاعاً في السنوات المقبلة, فالمهاجر يبحث أساساً عن حياة أفضل, بينما يبحث اللاجئ (وكذلك النازح) عن مكان يوفر له يوماً إضافياً على قيد الحياة.
تصل نسبة المهاجرين 11 في المائة من سكان البلدان المتقدمة. فهذه البلدان قادرة على استيعاب سلس لهم، دون أن تتكبد أعباء كبيرة. غير أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فعدد متعاظم من الدول المتقدمة تحتاج إلى خبرات وكفاءات علمية ومهنية في مختلف المجالات، وهي إن فتحت الأبواب أمام المهاجرين، فإنها تسد بعضاً من الثغرات في هيكلية سوق العمل والتوظيف بشكل عام. ومن أجل ذلك، بدأت بعض البلدان بتشجيع هجرة الكفاءات إليها، بصرف النظر عن الدول المصدرة لها، أو بمعنى آخر، بصرف النظر عن الدول المتسربة منها. وهذه الدول ببساطة، تحتاج إلى الكفاءات أكثر من البلدان المتقدمة. هي غالباً دول تسعى إلى النمو الذي يوفر لها حداً أدنى من الاكتفاء في مختلف المجالات.
والحقيقة أن الدول المتقدمة ترتكب مزيداً من الأخطاء في هذا السياق. ففي الوقت الذي تسهم (بصور مختلفة) في التنمية في البلدان المصدرة للكفاءات والأيدي الماهرة، فإنها تستقطب (أو تسرق) رافداً محورياً في التنمية هناك. مع ضرورة الإشارة إلى أن مساهمات الدول المتقدمة في التنمية بالبلدان النامية، تراجعت بشكل كبير في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وقلت التزاماتها بحجة الأزمة، التي ارتكبتها هي نفسها، لا أحد غيرها. فحتى على صعيد المساعدات الإنسانية، ينبغي أن ينشر التحذير الذي صدر أخيراً عن منظمة ''أوكسفام'' الخيرية العالمية، الرعب في الأوساط الدولية قاطبة. هذه المنظمة تقول ''إن سياسات التقشف التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، ستزيد عدد المعرضين للفقر بواقع 15 إلى 25 مليون أوروبي- مرة أخرى أوروبي- بحلول 2025، ليصل العدد إلى 146 مليون نسمة''.
أما لماذا ينبغي أن ينشر الرعب؟ لأنه إذا كان الأمر بهذه الصورة المرعبة في القارة الغنية، فكيف الحال في الدول الفقيرة أو النامية، المنتجة للأيدي الماهرة والكفاءات؟! الأوضاع المعيشية المتردية في هذه الدول، تعفي البلدان المتقدمة من ''عبء'' التشجيع على الهجرة إليها. فهؤلاء سيأتون إليها سواء بالتشجيع أو بالتسلل بصورة غير قانونية. وهذا ما يحدث بالفعل على كل الحدود المائية والبرية للبلدان المتقدمة. كل الدول تبحث عن مصالحها (هذا بدهي)، ولكن أليس من مصلحة البلدان المشار إليها، التقليل من التزاماتها الاقتصادية تجاه الدول النامية، بإبقاء الأدوات المنتجة في وطنها؟ سوف توفر عوائد في هذا المجال، يمكنها أن تستثمرها في بلادها نفسها، التي ستشهد (في الحالة الأوروبية) أكثر من 146 مليون فقير لاحقاً.
قضية المهاجرين، لا تنحصر في إطار شخصي فقط. إنها جزء أصيل من التنمية الشاملة في أي مكان، خصوصاً أولئك الذين يتمتعون بالكفاءات والمؤهلات اللازمة لبلدانهم. صحيح أن نسبة من بين المهاجرين تمثل عبئا حتى على الدول القادرة. فهي تبحث فقط عن مكان لعيش أفضل، دون أن تهتم بدورها في التنمية والمجتمع. ولكن الصحيح أيضاً، أن نسبة متعاظمة من المؤهلات تتسرب من دول تحتاج إليها بقوة، إلى دول تحتاج إليها بعض الشيء.

الجمعة، 13 سبتمبر 2013

في الاقتصاد «مصارف جرثومية» أيضا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«على البنك المركزي أن يضع سياسات، بمعزل عن اعتبارات سياسية قصيرة الأجل»
بن برنانكي رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي


كتب: محمد كركوتـــي


هناك كره تاريخي يفيض في ''وجدان'' المصارف حيال السلطات المالية. يبدأ مع تأسيس المصرف وفي أغلب الأحيان لا ينتهي. وحتى إن كانت هذه السلطات متساهلة في تشريعاتها ومراقبتها وقوانينها المالية، ينخفض الكره قليلاً، ويرتفع في الوقت نفسه توجس لا يزول أيضاً. لكن الكره يبقى في أعلى الدرجات، وفي كل الأوقات للجهات المالية العقابية. ويبدو أن هذه العلاقة لن تدخل في يوم من الأيام، في بيئة إيجابية. والسبب بسيط. هو أن السلوكيات المصرفية لا يمكن أن تتبدل ذاتياً، ويتطلب الأمر معها وجود ذراع غليظة، تُذكِّر أولاً، ثم تعاقب ثانياً. ولأن ذاكرة المصارف ضعيفة، فغالباً ما تكون الأولوية لـ ''ثانياً''.. لا لـ ''أولاً''! بالتأكيد تجهد المصارف نفسها للهروب من هذا وذاك، في عز انشغالها بجمع أكبر قدر من الأموال، بصرف النظر عن مصادره، وكي تتباهى بالاستحواذ على درجة أخرى عالية في قائمة أكبر وأقوى المصارف. وإذا كان المال ''كما يُقال'' يتكلم، فقد وجد الشاعر والمغني الأمريكي بوب ديلان، أنه يشتم.
عندما كان الاقتصاد العالمي ''فالتاً''، كانت المصارف تعيش أحلى أيامها، بل لنقل أحلى سنواتها. لقد دام ''عيشُها'' الرغيد أكثر من ربع قرن من الزمن. ازدادت قوة ونفوذاً، لدرجة أنها باتت هي التي تحدد السياسات المالية العامة في كثير من البلدان، ولا سيما تلك التي تتحكم في القرار الاقتصادي الدولي. بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، صُدم العالم من هول الخراب الذي أحدثته المصارف. أما المخربون فقد تسربوا الواحد تلو الآخر إلى ملاذات مضمونة. على كل حال، تغيرت الأمور، وأصبحت التشريعات المقيدة للمصارف واجبا وطنيا في كل دولة، بل ضمانة لبقاء الحكومات نفسها في الحكم. وفي زحمة حملة التنظيف التي تقوم بها هذه الحكومات، هناك الأموال المشينة، التي تتراوح بين عوائد المخدرات والاتجار بالبشر والنهب العام، وبين التهرب من الضرائب والعمولات الكبرى. وتركز الحكومات حالياً على الضرائب الضائعة، وكلها متجمعة في مصارف مختلفة في بلدان متعددة، وفي مقدمتها بالطبع سويسرا.
ظهرت قبل أيام في سويسرا دراسة مريعة حقاً! أجرتها مؤسسة ''كي بي إم جي'' المالية، بالتعاون مع جامعة ''سان جال''. تتوقع الدراسة أن يختفي ما بين 25 و 30 في المائة من المصارف السويسرية في غضون ثلاث سنوات، ليس بسبب اندماجها ''مثلاً'' مع مصارف أكبر منها، بل لأن التشريعات التنظيمية المالية الدولية الجديدة، تضغط عليها للكشف عن ودائعها. وهذه الودائع بمجملها، ليست سوى أموال مهربة من الضرائب، إلى جانب أموال مشينة أخرى. الضغوط المشار إليها، ليست أكثر من عملية تنظيف تقتل ''الجراثيم'' المصرفية، بعد أن عاثت هذه الجراثيم على مدى عقود في الأموال فساداً، وشجعت في الوقت نفسه على رفع عدد الفاسدين من كل الأجناس والمشارب. سيكتشف الخاسرون، الذين كانوا ''قبل الأزمة'' سكان العالم أجمع، حقائق من سويسرا، وغيرها من البلدان المشابهة، تجعلهم مشدوهين لسنوات طويلة.
لقد انخفض عدد المصارف السويسرية الخاصة ''حسب الدراسة نفسها'' في سبعة أعوام من 182 إلى 148 مصرفاً، بينما انخفض في العام الماضي فقط من 161 إلى 148 مصرفاً. وهو العام الذي لم تصل إليه الضغوط الخارجية على المصارف السويسرية، وغيرها في أشباه الدول التي تصدرت قائمة الملاذات الآمنة للأموال المشينة. كشف الإصلاح المالي الذي بدأ غصباً .. لا حباً ''بسبب الأزمة''، الكثير من الآثام المالية حول العالم، خصوصاً في الدول التي عاشت ''ولا تزال'' على أموال قذرة، لا يمكن تنظيفها إلا بحرقها. والهجمة الغربية الحالية على المصارف التي تتجمع فيها أموال ضرائب وطنية، ستقصي بالفعل الكثير من المؤسسات المالية. ولكن لم العجب؟ لقد ثبت أن مصارف ذات سمعة عالية لا تُمس، استخدمت الأموال القذرة في إنقاذ نفسها.
يطالب المختصون في سويسرا وإمارة ليختنشتاين، بضرورة تسريع حركة تعزيز المصارف الخاصة، ولا سيما في ظل المعركة الراهنة بين الولايات المتحدة والسلطات السويسرية، حول تجمع أموال أمريكية هائلة في مصارف الأخيرة، هي في الواقع ضرائب واجبة للبلاد. والسؤال الأهم هنا، كيف يمكن تعزيز هذه المصارف، بينما تقوم على أموال غير شرعية بل مشينة؟ لا أحد يطرح على الملأ طبيعة خطط التعزيز هذه، لأن المشكلة تكمن في موجودات مستحقة لجهات غيرها. ولهذا السبب، فإن خروج نسبة من المصارف الخاصة السويسرية من الساحة، هو الحل الأمثل لكل الأطراف. لا يمكن بأي حال من الأحوال إسناد المصارف المشار إليها، وفق المعايير التقليدية المعروفة. بل لا يمكن إنقاذها، فما تملكه .. ليس لها.
ليس أمام الحكومة السويسرية وغيرها من حكومات أشباه الدول، إلا التعاون مع الأنظمة المالية الدولية الجديدة، طوعاً أو كرهاً. وهذا يتطلب أيضاً التحرك واستغلال الفرصة المواتية، لتفعيل أكبر للحراك الخاص بملاحقة الأموال المنهوبة من الشعوب، ستكون أمامها الأموال الهاربة من الضرائب مجرد ''فكة''.

الأحد، 8 سبتمبر 2013

بكائيات أردوغان الإخوانية.. أنسته أزمته الاقتصادية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







''لا تبحث عن العجل تحت الثور''
من الأمثال التركية

كتب: محمد كركوتـــي

ينشغل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بالدفاع عن إخوان مصر. ولا مانع لديه من نقل العلاقات بين بلاده ومصر إلى أخطر مستوى لها. فهو في الواقع يدافع عبر بكائياته على حكم الإخوان المصريين، عن التنظيم العالمي لهذه الجماعة، التي استعذبت منذ انطلاقتها، العمل السري حتى لو كانت في الحكم. والحق، أن العمل السري، هو جزء أصيل من مبادئها وأدبياتها. دون أن ننسى، أن مرشداً سابقاً لهذه الجماعة في مصر هو مأمون الهضيبي، قال علانية: ''نتقرب إلى الله بأعمال التنظيم السري للجماعة''! وأعمال التنظيم السري هذه، أقلها الاغتيالات والتصفيات الجسدية. على كل حال، أنست بكائيات أردوغان، هذا الأخير الأزمات الاقتصادية التي تتجمع في بلاده. ويبدو واضحاً، أن ما يحتاج إليه التنظيم العالمي للإخوان، له الأولوية على كل شيء. تكفي الإشارة هنا، إلى استضافته اجتماعات هذا التنظيم ''سرياً طبعاً''، لبحث مصيبة انهيار حكم الجماعة في مصر.
تواجه تركيا مصاعب اقتصادية متصاعدة، أخذت تهدد شيئاً فشيئاً النمو الذي تمتعت به البلاد بالفعل في غضون السنوات القليلة الماضية. بل إن هذه المصاعب، بدأت تدفع خارجاً أولئك الذين اعتقدوا استدامة النمو إلى ما لا نهاية. ففي الأسابيع الماضية، شهدت البلاد هجرة للاستثمارات الأجنبية، واضطرت الحكومة إلى سن مجموعة من القوانين، لجذب ما أمكن لها، ليس من أموال الأجانب، بل من أموال الأتراك الذين يعيشون خارج بلادهم، مترددين في ضخها. وفي الواقع، تدخل هذه التطورات الدراماتيكية، في إطار تحولات في زخم التوجهات نحو الأسواق الناشئة نفسها. فقد وجدت شرائح عديدة من المستثمرين الأفراد والصناديق المتوسطة والكبرى، أن المخاطر باتت عالية في هذه الأسواق، ولا سيما في زمن الاضطرابات. وفي كل الأحوال، تواجه حكومة أردوغان مجموعة من المشكلات الاقتصادية، التي ستظل على الساحة لفترة لن تكون وجيزة.
يعاني البنك المركزي التركي كثيراً للحفاظ على ما أمكن من قيمة الليرة. وهو بين نارين. الأولى: رفع نسبة الفائدة، والثانية: استنزاف الاحتياطي من القطع الأجنبي. أعلن البنك حالة الطوارئ، في الوقت الذي وجد فيه أردوغان وقتاً، ليؤكد أن ''المركزي'' لن يُقدِم على رفع معدلات الفائدة. ماذا حدث؟ فشلت مبيعات البنك المركزي من العملات الأجنبية الصعبة في تهدئة التوتر الحاصل على الساحة الاقتصادية، وأخفقت تدخلاته المباشرة في سوق صرف العملات، بينما لم ينصت إلى أردوغان، ورفع الفائدة. لكن النتيجة بقيت كما هي. ومنذ مايو الماضي تراجعت الليرة 9 في المائة مقابل العملات الرئيسة الأخرى، وهي مرشحة للتراجع. يصف الاقتصاديون الأتراك اقتصاد بلادهم بـ ''الهش''، ويؤكدون أن ذلك يعود إلى الاقتراض المفرط، والتخلف عن السداد العائد بشكل أساسي إلى استثمارات مالية خارجية قصيرة الأمد، وأن التطورات الاقتصادية العالمية، كشفت عن مشكلات مزمنة في هذا الاقتصاد.
والحقيقة، أن مشكلات الاقتصاد التركي، بدأت قبل أكثر من عامين، حين بلغ التخلف عن سداد الأموال المستحقة نسبة 10 في المائة من الدخل المحلي. المسؤولون في حكومة أردوغان، يبررون هذه التطورات السلبية ''بأن كل بلدان العالم باتت عرضة للتقلبات الاقتصادية، بفعل انكشافها على تطورات الخارج في عالم مفتوح''. وهذا النوع من التبريرات، يطلقها عادة أولئك الذين ليسوا واثقين بما يكفي من علاج الأزمات المتصاعدة. هناك مشكلة مستمرة منذ زمن، وهي ضعف الأصول التركية، وأي سياسة اقتصادية تطرح حالياً، لا يمكن أن تعالج هذه المسألة بصورة جذرية. إنها مشكلات تتطلب إعادة النظر في الكثير من السياسات المتبعة، والإقدام على خطوات، لن تكون بالضرورة شعبية. إنها الضريبة السياسية التي لا ترحم حكومة ولا حزبا .. وبالتأكيد ولا ''جماعة''.
في الإطار نفسه، يساهم التوتر في العلاقات بين تركيا ودول الخليج العربية، في دفع هذه الأخيرة لإعادة النظر بوجودها الاقتصادي في تركيا. وقد ظهرت مؤشرات واضحة على ذلك، بقيام البنك المركزي الإماراتي ''على سبيل المثال'' بمطالبة المصارف التجارية، بإمداده بتفاصيل مساهماتها بمشاريع في تركيا، أو شراء صكوك وأدوات دين تركية، أو وجود إيداعات كبيرة لأتراك فيها، أو إيداعات لإماراتيين في البنوك التركية. اللافت أن خطاب ''المركزي الإمارتي''، اتخذ طابع الاستعجال، وطالب البنوك بالإفصاح عن هذه البيانات سريعاً. ومن الإمارات، أبلغت شركة ''طاقة'' فيها الجانب التركي، أنها لن تمضي قدماً في مشروع ضخم لبناء عدد من محطات توليد الكهرباء، تستخدم احتياطيات فحم ''الليجنايت'' الموجودة بوفرة في تركيا. وهذا المشروع يتكلف 12 مليار دولار أمريكي.
ليس مهماً تأجيل اتفاقية الربط بين بورصتي القاهرة وإسطنبول، نتيجة للتوتر الناجم عن تدخل أردوغان في شؤون مصر الداخلية. المهم بالنسبة لهذا الأخير، أن يحافظ ما استطاع على جملة من الاستثمارات الخليجية، لو تسربت إلى خارج تركيا، سترفع من حدة الأزمات التي يواجهها الاقتصاد التركي، خصوصاً إذا ما انضمت هذه الاستثمارات إلى أخرى أجنبية، انسحبت أو تفكر بالانسحاب من الساحة التركية.