الجمعة، 13 سبتمبر 2013

في الاقتصاد «مصارف جرثومية» أيضا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«على البنك المركزي أن يضع سياسات، بمعزل عن اعتبارات سياسية قصيرة الأجل»
بن برنانكي رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي


كتب: محمد كركوتـــي


هناك كره تاريخي يفيض في ''وجدان'' المصارف حيال السلطات المالية. يبدأ مع تأسيس المصرف وفي أغلب الأحيان لا ينتهي. وحتى إن كانت هذه السلطات متساهلة في تشريعاتها ومراقبتها وقوانينها المالية، ينخفض الكره قليلاً، ويرتفع في الوقت نفسه توجس لا يزول أيضاً. لكن الكره يبقى في أعلى الدرجات، وفي كل الأوقات للجهات المالية العقابية. ويبدو أن هذه العلاقة لن تدخل في يوم من الأيام، في بيئة إيجابية. والسبب بسيط. هو أن السلوكيات المصرفية لا يمكن أن تتبدل ذاتياً، ويتطلب الأمر معها وجود ذراع غليظة، تُذكِّر أولاً، ثم تعاقب ثانياً. ولأن ذاكرة المصارف ضعيفة، فغالباً ما تكون الأولوية لـ ''ثانياً''.. لا لـ ''أولاً''! بالتأكيد تجهد المصارف نفسها للهروب من هذا وذاك، في عز انشغالها بجمع أكبر قدر من الأموال، بصرف النظر عن مصادره، وكي تتباهى بالاستحواذ على درجة أخرى عالية في قائمة أكبر وأقوى المصارف. وإذا كان المال ''كما يُقال'' يتكلم، فقد وجد الشاعر والمغني الأمريكي بوب ديلان، أنه يشتم.
عندما كان الاقتصاد العالمي ''فالتاً''، كانت المصارف تعيش أحلى أيامها، بل لنقل أحلى سنواتها. لقد دام ''عيشُها'' الرغيد أكثر من ربع قرن من الزمن. ازدادت قوة ونفوذاً، لدرجة أنها باتت هي التي تحدد السياسات المالية العامة في كثير من البلدان، ولا سيما تلك التي تتحكم في القرار الاقتصادي الدولي. بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، صُدم العالم من هول الخراب الذي أحدثته المصارف. أما المخربون فقد تسربوا الواحد تلو الآخر إلى ملاذات مضمونة. على كل حال، تغيرت الأمور، وأصبحت التشريعات المقيدة للمصارف واجبا وطنيا في كل دولة، بل ضمانة لبقاء الحكومات نفسها في الحكم. وفي زحمة حملة التنظيف التي تقوم بها هذه الحكومات، هناك الأموال المشينة، التي تتراوح بين عوائد المخدرات والاتجار بالبشر والنهب العام، وبين التهرب من الضرائب والعمولات الكبرى. وتركز الحكومات حالياً على الضرائب الضائعة، وكلها متجمعة في مصارف مختلفة في بلدان متعددة، وفي مقدمتها بالطبع سويسرا.
ظهرت قبل أيام في سويسرا دراسة مريعة حقاً! أجرتها مؤسسة ''كي بي إم جي'' المالية، بالتعاون مع جامعة ''سان جال''. تتوقع الدراسة أن يختفي ما بين 25 و 30 في المائة من المصارف السويسرية في غضون ثلاث سنوات، ليس بسبب اندماجها ''مثلاً'' مع مصارف أكبر منها، بل لأن التشريعات التنظيمية المالية الدولية الجديدة، تضغط عليها للكشف عن ودائعها. وهذه الودائع بمجملها، ليست سوى أموال مهربة من الضرائب، إلى جانب أموال مشينة أخرى. الضغوط المشار إليها، ليست أكثر من عملية تنظيف تقتل ''الجراثيم'' المصرفية، بعد أن عاثت هذه الجراثيم على مدى عقود في الأموال فساداً، وشجعت في الوقت نفسه على رفع عدد الفاسدين من كل الأجناس والمشارب. سيكتشف الخاسرون، الذين كانوا ''قبل الأزمة'' سكان العالم أجمع، حقائق من سويسرا، وغيرها من البلدان المشابهة، تجعلهم مشدوهين لسنوات طويلة.
لقد انخفض عدد المصارف السويسرية الخاصة ''حسب الدراسة نفسها'' في سبعة أعوام من 182 إلى 148 مصرفاً، بينما انخفض في العام الماضي فقط من 161 إلى 148 مصرفاً. وهو العام الذي لم تصل إليه الضغوط الخارجية على المصارف السويسرية، وغيرها في أشباه الدول التي تصدرت قائمة الملاذات الآمنة للأموال المشينة. كشف الإصلاح المالي الذي بدأ غصباً .. لا حباً ''بسبب الأزمة''، الكثير من الآثام المالية حول العالم، خصوصاً في الدول التي عاشت ''ولا تزال'' على أموال قذرة، لا يمكن تنظيفها إلا بحرقها. والهجمة الغربية الحالية على المصارف التي تتجمع فيها أموال ضرائب وطنية، ستقصي بالفعل الكثير من المؤسسات المالية. ولكن لم العجب؟ لقد ثبت أن مصارف ذات سمعة عالية لا تُمس، استخدمت الأموال القذرة في إنقاذ نفسها.
يطالب المختصون في سويسرا وإمارة ليختنشتاين، بضرورة تسريع حركة تعزيز المصارف الخاصة، ولا سيما في ظل المعركة الراهنة بين الولايات المتحدة والسلطات السويسرية، حول تجمع أموال أمريكية هائلة في مصارف الأخيرة، هي في الواقع ضرائب واجبة للبلاد. والسؤال الأهم هنا، كيف يمكن تعزيز هذه المصارف، بينما تقوم على أموال غير شرعية بل مشينة؟ لا أحد يطرح على الملأ طبيعة خطط التعزيز هذه، لأن المشكلة تكمن في موجودات مستحقة لجهات غيرها. ولهذا السبب، فإن خروج نسبة من المصارف الخاصة السويسرية من الساحة، هو الحل الأمثل لكل الأطراف. لا يمكن بأي حال من الأحوال إسناد المصارف المشار إليها، وفق المعايير التقليدية المعروفة. بل لا يمكن إنقاذها، فما تملكه .. ليس لها.
ليس أمام الحكومة السويسرية وغيرها من حكومات أشباه الدول، إلا التعاون مع الأنظمة المالية الدولية الجديدة، طوعاً أو كرهاً. وهذا يتطلب أيضاً التحرك واستغلال الفرصة المواتية، لتفعيل أكبر للحراك الخاص بملاحقة الأموال المنهوبة من الشعوب، ستكون أمامها الأموال الهاربة من الضرائب مجرد ''فكة''.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق