الاثنين، 19 ديسمبر 2011

في أوروبا.. حرب للحفاظ على الهيبة؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"حسب معرفتي، فإن أفضل شيء يجمع بريطانيا وفرنسا، هو البحر"
دوجلاس جيرولد كاتب بريطاني

 
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
في زحمة استمرار ما اصطُلح على تسميته بـ "الربيع العربي"، هناك في القارة الأوروبية خريف، لا يبدو أنه سينتهي قريباً، بعد أن اختصر الفصول الثلاثة الأخرى فيه، مشكلاً أعاصير تاريخية سياسية اقتصادية اجتماعية، دفع البعض المُبالِغ من الأوروبيين إلى الاعتقاد، بأنه خريف قد يزج بأوروبا في الحرب! وعلى الرغم من عدم واقعية هذا الاعتقاد، إلا أن مجرد طرحه من قبل سياسيين أوروبيين، يمثل نقطة خطرة في القارة التي تحارب ديونها، بل وتحارب نفسها من أجل الانتصار على الديون وتوابعها وعلى الفشل وروابطه وعلى الانهيار ومصائبه. تحارب من أجل حماية عملة لا تزال "طفلة" من حيث الزمن، ومن أجل الحفاظ على هيبة ظلت في الأجواء، حتى بعد تراجع نفوذ وقوة أوروبا (وتحديداً بريطانيا وفرنسا)، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن أجل اتحاد، كان حتى وقت قريب رمزاً من رموز النجاح على الساحة العالمية، بل ومرجعاً لأي اتحادات مشابهة، أو مشاريع اتحادات مماثلة. وعلى الرغم من أن الحرب التي تخوضها أوروبا بلا أسلحة، إلا أنها حرب شرسة، استجلبت بعضاً من "الأسلحة" القومية والوطنية والمحلية، رغم الصدأ الذي علاها، ورغم التحديات التي عطلتها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية.

لا زلت أعتبر أن العنوان الأخطر في الأزمة المالية الأوروبية الراهنة، هو ذاك الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ماذا قال؟ "إن خطر تفكك أوروبا لم يكن يوماً كبيراً كما هو اليوم". ولن يكون هناك عنوان آخر سيوازيه من حيث الصدمة، ومن جهة الوقِع. ولأنه كذلك، فإننا يمكن أن نفهم كيف تجنب رئيس فرنسا مصافحة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في القمة الأوروبية التاريخية التي عقدت في بروكسل، من أجل معاهدة جديدة لضبط الموازنات العامة لدول منطقة اليورو. كان سلوكاً يعبر عن أكثر من فتور في العلاقات، وأكبر من خلاف سياسي.. سلوك لرجل خائف على أوروبا وهيبتها وعملتها (بل وكيانها)، مع رجل لا يزال يعيش وهم الهيبة البريطانية، وأحلام الأنجلو-سكسونية، رغم أن هذه الأخيرة لم تعد ذات معنى عند الطرف الأميركي المكمل لها، ليس فقط لقناعة إدارة أميركية بضرورة الإشراك العالمي، بل لأن الجامع البريطاني- الأميركي التاريخي التقليدي، انتهى مع أول ضربة للأزمة الاقتصادية العالمية قبل ثلاث سنوات. فما كان ينفع قبلها، أصبح ضاراً بعدها. واشنطن عرفت ذلك، لكن يبدو أنه لم يصل الخبر بعد إلى حكومة "الرأس والنصف" (لا الرأسين) في بريطانيا.

والحقيقة أن موقف كاميرون المعارض (والمنسحب) لمعاهدة أو اتفاقية جديدة تصون الموازنات العامة الأوروبية، وتحاكي استحقاقات الأزمة الاقتصادية العالمية ومصائبها، شكل صدمة كبيرة، لمن؟ لشركائه في الحكم! فحزب الديمقراطيين الأحرار المؤتلف (لا المتآلف) مع المحافظين، وجد نفسه بين خيارين اثنين لا ثالث لهما. الأول: أن ينسحب من الحكومة ويسقطها، والثاني: أن يظل صامتاً. والمشكلة في الخيار الأخير، أنه لا يملك كثيراً من الوقت لمواصلة الصمت. فالصدمة لم تكن أوروبية خالصة، بل سياسية بريطانية محلية أيضاً. وكم كان المشهد تاريخياً، عندما كان كاميرون يدافع عن قراره هذا في مجلس العموم البريطاني، وإلى جانبه "نصف الرأس الآخر" في حكومته زعيم "الديمقراطيين الأحرار" نيك كليج، الكاره لما يقوله رئيس الوزراء. ولو كنت مكان كليج، لارتكبت حادثاً مرورياً "مع نفسي"، ليكون عذراً مقنعاً لعدم حضوري هذه الجلسة تحديداً.

يرتكب ساركوزي والمسؤولون الفرنسيون، خطأ كبيراً الآن بتركيز الهجوم على بريطانيا، وتعريتها اقتصادياً، من خلال دعوة وكالات التصنيف العالمية، إلى تخفيض تصنيف المملكة المتحدة، قبل التطرق إلى دول منطقة اليورو، وعن طريق إطلاق التصريحات على أعلى المستويات، التي تتحدث عن أن بريطانيا أكثر مديونية من فرنسا، بما في ذلك ما قاله وزير المالية فرنسوا باروان "إن وضع بريطانيا العظمى مقلق جداً حالياً، ونفضل أن نكون فرنسيين على أن نكون بريطانيين على الصعيد الاقتصادي". ويخطئ الفرنسيون أيضاً، بوصف كاميرون بـ "الأخرق" و" الولد العنيد". فـ "الردح الاقتصادي- السياسي" لا يساعد فرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي (وتحديداً دول اليورو)، في استعادة الهيبة الأوروبية المهددة. والتاريخ أثبت، أن هذا النوع من "الردح"، لم ينقذ معاهدة أو اتفاقية أو تفاهم أو عقد، كما لم يدفع "المردوح" –إن جاز التعبير- لتغيير مواقفه.

ليس أمام فرنسا ومعها بقية الدول الأوروبية المحورية والثانوية، إلا أن تصل إلى تلك المعاهدة أو الاتفاقية، التي ستحفظ في النهاية مكانة الاتحاد الأوروبي، ووضعية اليورو، وأهمية أوروبا وهيبتها. إن الأزمة التاريخية التي تعيشها أوروبا حالياً، ليست خالية من معاول الحلول، شرط أن تقلل بعض الدول الخائفة على مصير الاتحاد، من اعتباراتها القومية والوطنية، وأن تعترف بأن هذا الاتحاد (رغم المصائب والمصاعب التي يمر بها)، يشكل في النهاية الضامن الوحيد للازدهار الاقتصادي في القارة الأوروبية. ولا شك أن بريطانيا، ستواصل تشكيكها بمستقبل اليورو، وستبقي رأسها في جزيرتها، لكنها لن تنزع جسمها من أوروبا.

هناك تعليق واحد: