الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

وجدانيات اقتصادية سورية لضرب العقوبات!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"الذي يشعر بأن العالم أجمع يغشه.. هو على حق، لأنه يفتقد الشعور الرائع بالثقة في أي إنسان أو أي شيء"
إيريك هوفير كاتب وأديب أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتـــــي
 
يوم أن أعلنت جامعة الدول العربية عقوبات اقتصادية ضد بشار الأسد وأعوانه، جمعني برنامج تلفزيوني في محطة (سي إن بي سي عربية)، مع محمد الشعار وزير اقتصاد الأسد الذي لم يستطع أن يخفي رعبه من هذه العقوبات، لاسيما وأنه قبل يومين فقط أعلن في نفس المحطة "استحالة أن يقوم العرب بفرض عقوبات". الوزير المصدوم والمرتبك والبائس، لم يتحدث عن هذه العقوبات من زاوية الاقتصاد، بقدر إطلاقه لجُملٍ تحاكي عواطف العرب، مما دفعني إلى القول –في البرنامج نفسه- بأنه تناول قضية مهمة ومصيرية بالنسبة للسلطة، بـ "وجدانيات اقتصادية". وحتى وجدانياته هذه، لم تكن متطورة، فقد كرر ما يعرفه كل العالم وليس العرب فقط، بأن ما يربط سورية بأشقائها العرب، اللغة والمصير والجغرافية والدين.. إلى آخر تلك الروابط المعلومة لطفل في فصله الأول. ولكن ما دخل هذا كله، في عقوبات عربية على نظام يستحق "كأس العالم" في استحواذه على المُهل والفرص العربية والعالمية، من أجل وقف عمليات القتل والسحل والاعتقال والتعذيب والتهجير، ضد شعب أعزل أراد حرية؟!

وإذا كانت الحرية مكفولة لأي إنسان في أن يستغرب العقوبات كلها (أو ما شاء منها)، على سلطة تقتل شعبها، فإن حق الاستغراب مرفوع عن أركان هذه السلطة. وتكفي الإشارة، إلى أن العرب الذين اتُمهوا –ولا يزالون- من قبل الأسد وأعوانه، بأنهم ينفذون أجندات خارجية، تركوا ضمن بنود عقوباتهم منفذاً جديداً آخراً لهذه السلطة، بأقل التكاليف الممكنة لها. وللتذكير، قالوا للأسد: اسمح بدخول لجنة تقصي الحقائق إلى سورية، نوقف العقوبات التي لم نطبقها بعد. ولأن الجرائم التي يرتكبها الأسد فظيعة بحق شعب أعزل، فقد وجد وأعوانه أن العقوبات العربية (مهما كانت ضاربة) تبقى أهون من كشف الحقائق، ويظل منع سفر أي ركن من أركان السلطة، أقل وطأة من اكتشاف مقبرة جماعية، أو من إحصاء عدد المعتقلين، أو من الاطلاع على الأعمال المريعة لقطاع الطرق الموظفين لدى هذه السلطة، أو من معرفة مصير مئات (وربما آلاف) المفقودين، أو من توثيق استخدام الطائرات المقاتلة والمدفعية والسفن الحربية ضد المدنيين، أو معاينة تدمير المآذن وتخريب المساجد ودور العبادة.

وبعيداً عن وجدانيات وزير الاقتصاد (لا وزير الثقافة)، وبعيداً أيضاً عن المُهل والفرص والمنافذ والمخارج والأبواب والنوافذ، التي وفرها العرب للأسد وأعوانه، في نطاق حرص عربي لحل الكارثة السورية عربياً، يبقى السؤال الدائم المُحق، وهو: إلى أي مدى ستنال العقوبات العربية من السوريين؟ وكان هذا سؤال محوري في الحلقة التلفزيونية التي شاركت فيها. لم يشهد التاريخ سقوط نظام -بصرف النظر عن وحشيته- بفعل عقوبات اقتصادية فُرضت عليه، ومهما كانت العقوبات "ذكية"، لن تستمر في "ذكائها" إذا ما طال أمدها، يضاف إلى ذلك، أن "براعة" العقوبات تكمن في اختيار مُحْكم لأهدافها، فضلاً عن توفر معلومات عالية الجودة، عن الجهات والشخصيات المستهدفة. وقبل هذا وذاك، براعة التنفيذ، وهي المرحلة الأصعب في كل الأحوال. وفي العقدين الماضيين، وجدنا كيف أن أنظمة وحشية نهبت بلادها وقتلت ما أمكن لها من شعبها، كنظام تشارلز تيلور في ليبيريا، وروبرت موغابي في زيمبابوي وغيرهما، لم تسقط من جراء العقوبات، بل أن هذا الأخير لا يزال يحكم بلاده بأفظع طريقة ممكنة. وبالتأكيد لا أحد ينسى العقوبات التي فُرضت على العراق في عهد صدام حسين، كيف نالت من كل العراقيين، إلا هو وأعوانه.

ومهما بلغ "ذكاء" العقوبات، لا بد من وجود ذراع سياسية ودبلوماسية قوية تدعمها، وفي الحالة السورية، ربما استوجب الأمر في مرحلة لاحقة ذراعاً ميدانية، تكفل للمدنيين العزل الحماية. إن العقوبات العربية على الأسد وأعوانه، ستكون مؤثرة عليه في المرحلة القصيرة فقط، خصوصاً فيما يرتبط بتجفيف ما أمكن من الموارد المالية التي يحتاجها في حربه ضد شعبه. لكن لو طالت المدة (مع استمرار بقاء السلطة في الحكم)، ستشكل هذه العقوبات عبئاً لا يستطيع السوريون تحمله، فهم أصلاً يمرون بظروف معيشية مريعة، ليس في موسم أو موسمين أو أكثر، بل في أربعة عقود. وكما الأسد الأب في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كذلك الأسد الابن، سيستخدم هذه العقوبات ضد شعبه. فالذي يقتل الأطفال، لا تهمه معاناة شعبه من شح وقود التدفئة. وفي مقال سابق لي، ذكرت أن الأسد لن يتردد في أخذ شعبه "رهينة اقتصادية"، فهو يعتقد بأنه امتلكه بصك وراثة، وهو يؤمن بأنه امتلك جمهورية وأخذ معها الشعب هدية.

ليس أمام العرب سوى الاختيار الدقيق والناجع للأهداف الاقتصادية، وفي الوقت نفسه الوقوف المباشر إلى جانب الشعب السوري، ولا يوجد المزيد من الوقت، إذا ما أرادوا أن يقدموا نموذجاً ناجحاً واحداً، من خلال جامعتهم. فوجدانيات وزير اقتصاد الأسد صحيحة، لكن الروابط التي تحدث عنها، لا تستقيم مع سلطة لا شرعية. إنها في الواقع روابط لا دخل للحكومات والسلطات بها.

هناك تعليق واحد: