الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

في سورية «مُندس» اقتصادي

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''الأفضل أن تبقى صامتا وتعطي الانطباع أنك أحمق، على أن تتحدث وتزيل الشكوك حول حمقك''
مارك توين كاتب وأديب أمريكي



كتب: محمد كركوتــــي
 
لأول مرة منذ حافظ الأسد (الأول والأخير)، إلى بشار الأسد (الأول والأخير أيضا)، يُعلَن رسميا في سورية عن طبيعة وحجم الموارد العامة، رغم كل الشكوك حول الأرقام. فعلى مدى أكثر من أربعة عقود، كانت هذه الموارد تدخل (دون إعلان ذلك بالطبع) ضمن نطاق الأمن القومي، ولكنها في الحقيقة، تصب في إطار أمن السلطة في البلاد، التي مزجت بين أمنها الخاص وأمن الوطن، ووحَّدت حالة الدولة فيها وليس العكس. هذه السلطة (كما الحكومات المارقة التي اندثرت في هذا العالم) تخفي ثروة البلاد، ليس خوفا من الحسد، ولكن حفاظا على إمدادات مالية سرية منهوبة، تكفل لها الاستمرار في الحكم أطول فترة ممكنة، وتوفر لها أرضية صلبة لتوريث السلطة من الأب إلى الابن إلى الحفيد.. وإلى حفيد الحفيد! وكلنا يعرف، أن السارق لدولار واحد أو السارق لمليارات الدولارات، لا يتركان قائمة بمسروقاتهما. وكنت قد أشرت في مقال سابق لي، إلى أن السارق المحترف، يكمل سرقته، بنهب ما أمكن له من الدفاتر التي تحتوي على الموجودات المسروقة، كجزء من عملية تضليل تستهدف أولئك الذين يوجهون الأسئلة، عن مصير الموجودات.

ولهذا السبب وضع الأسدان الأب والابن، استراتيجية يمكن أن نطلق عليها توصيف ''استراتيجية الصمت الاقتصادي''، وهي تقوم على إعلان الإنفاق العام في الموازنات السنوية، مع ''الإعلان'' عن ناتج وطني وهمي بلا دفاتر ولا سجلات، وبلا اقتصاديين سوريين يتحدثون عنه، وبلا نواب للشعب (إن وجدوا أصلا بصورة شرعية) يوجهون الأسئلة حوله. ولأن الأمر كذلك، لم يظهر مسؤول واحد على الساحة الدولية، بما في ذلك المسؤولون في المؤسسات الدولية الاقتصادية المعروفة، مستعد لقراءة موازنة واحدة من الموازنات السورية على مدى أربعة عقود، وكان هؤلاء يتعاطون مع الاقتصاد السوري وفق تقديراتهم، وليست استنادا إلى ما توزعه السلطة من معلومات لا قيمة لها.

وعلى الرغم من أن محمد الشعار وزير اقتصاد بشار الأسد، كسر ''استراتيجية الصمت الاقتصادي''، إلا أنه لم يستطع أن يستقطب أية جهة ذات قيمة ومصداقية، يمكنها أن تمنح أرقامه الخاصة بالناتج الوطني (المحلي)، أي شكل من أشكال المصداقية. فقد فضح نفسه ومعه السلطة التي يتحدث باسمها، قبل أن ينتهي من خطابه الذي ألقاه في ''الملتقى الوطني للإصلاح الاقتصادي''، الذي تنظمه السلطة نفسها! والحقيقة أن الأسد كان يريد من خلال خطة ''كسر'' الاستراتيجية عبر وزير اقتصاده، أن يمهد الطريق ''نفسيا'' لخطة جديدة تضاف إلى الخطط الاقتصادية ''الصبيانية'' الأخرى، التي أطلقها منذ اندلاع الثورة الشعبية السلمية العارمة في البلاد. وهذه الخطة تهدف إلى رفع الدعم الحكومي عن المواد الاستهلاكية الأساسية. ولأن الأمر كذلك، فقد بدأ الأسد الخطة فعلا، من خلال الإعلان بأن الاقتصاد السوري يمر بحالة طوارئ. بل مضى أبعد من ذلك، حين أوعز للشعار ليقول ''من واجب البنك المركزي دعم مشتريات الدولة، وليس حاجات المواطن''! وهو من دون أن يدري، أكد مجددا أن البنك المركزي السوري ليس مركزيا؛ لأنه وُجد لدعم مشتريات الدولة، التي اختصرها الأسد الأب والابن في عائلة واحدة.

''أشكر'' وزير اقتصاد الأسد، لأنه ذكرني بقول للفيلسوف والمؤلف الأمريكي المثالي هنري ثورو عن الحمقى. ماذا قال؟ ''أي أحمق يمكنه أن يضع القوانين، وأي أحمق آخر يقبلها''. وكان وليام شكسبير الأديب الإنجليزي سبقه، عندما قال ''الأحمق يظن نفسه أنه حكيم، لكن الحكيم يعتقد نفسه أنه أحمق''. لقد عزز الأسد مرة أخرى الاعتقاد بأن الثورة السورية، أدخلته في عالم لا ينتهي من الاضطراب والفوضى والتخبط في صنع القرارات. فقد أضاف (في تسويقه المبدئي لرفع الدعم عن المواد الاستهلاكية)، آلية جديدة إلى الآليات التي تعج بها سورية، لإنهاء نظامه إلى الأبد. فلا يوجد حاكم له من الحكمة حدها الأدنى، يمكن أن يفكر في هذه الخطوة، حتى وإن كان يعيش استقرارا سياسيا، فكيف الحال وسقوط الأسد المتوقع بات قاب قوسين أو أدنى؟ والمؤكد أن بشار الأسد لا يقرأ التاريخ؛ لأن التاريخ هو حصيلة إجمالية لأشياء كان من الممكن تفاديها، وربما لا يقرأ أعوانه التاريخ أيضا. ليسترجعوا فقط الانتفاضات التي اندلعت ضمن محيطهم العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ جراء قرارات مشابهة اتخذتها حكومات مصر وتونس والجزائر والأردن.

لا أعرف من اقترح على الأسد البدء بتسويق حملة رفع الدعم عن المواد الأساسية (الخبز والرز والسكر والزيت من بينها)، وأيا كان هذا المستشار ''النابغة''، فهو يستحق الشكر والثناء من الشعب السوري الذي يواصل ثورته السلمية، ويستحق أيضا توصيف ''مندس اقتصادي''. وأنا أقترح (إذا ما عُرف هذا المستشار) ألا يحاكم بعد زوال الأسد وسلطته. إنه بخطته هذه يُسرِع استكمال الثورة السورية؛ لأن ما بدأته هذه الثورة يمكن ببساطة أن ينهيه الاقتصاد. أليس العصيان المدني في البلاد بات على الأبواب؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق