الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

كيف تُسرق سورية؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"الرجل الذي يكون أول الصارخين حرامي.. حرامي، غالباً ما يكون سارق الخزنة"
وليام كونجريف كاتب وأديب إنجليزي

 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
أتلقى رسائل الكترونية كثيرة، يطلب مرسلوها معرفة حجم الأموال التي نهبها سفاح سورية بشار الأسد وأسرته وأعوانه. المعلومات كثيرة، لكن الأدلة قليلة. فلم يحدث أن ترك الناهبون وراءهم وثائق عن سرقاتهم، خصوصاً عندما يكونون في السلطة، يتحكمون بالأختام ومفاتيح المصارف المركزية (وحتى الخاصة)، ومنابع الثروة. واللص (أياً كان) عندما يسرق، لا يترك لائحة بالمسروقات، والغنيمة المثالية له، هي تلك غير المسجلة. وتكون السرقة كاملة، عندما ينهب في طريقه السجلات والدفاتر، أي أنه يسرق المال ويمحي آثاره. ومع التضييق العالمي على الناهبين الكبار، بات الهم الأول لهؤلاء، إيجاد ملاذات آمنة لأموال شعوب، نصفها يعيش في ساحة ما دون الفقر، والغالبية الأخرى من هذه الشعوب، تحيا في الفقر نفسه، بلا صوت صادر عنها، لأن فداحة الآلام تخفي أبسط الكلمات.

التقديرات تتحدث عن ثروة للأسد وأسرته تتراوح ما بين 30 و40 مليار دولار. وحرصاً على النزاهة في الطرح، فهذه الأرقام الفلكية في بلد كسورية، اتفقت حولها جهات معارضة للسلطة، مع بعض المؤسسات التي لا يربطها بسورية ولاء أو معارضة. ويرى البعض أن هذه الأموال هي أقل مما قد تكون الأسرة، قد جمعته على مدى أكثر من أربعة عقود. مستندين في ذلك إلى أن محمد مخلوف خال الأسد الابن، تمكن من تكديس ما بين 12 و15 مليار دولار. فإذا كان الخال لوحده اقتنص هذا الكم الهائل من الأموال، فهل تكون أموال "القائد"، إلا ضعف أو ربما أضعاف هذه المبالغ؟ دون الحديث عن أموال الشقيق ماهر، والصهر آصف شوكت والأعمام وأبنائهم. ولمن نسي، فقد تمكن رفعت شقيق الأسد الأب (بطل مجازر حماة وحلب وتدمر) في منتصف ثمانينات القرن الماضي، من حمل أكثر من 3 مليارات دولار أميركي إلى الخارج (ربما كمكافأة نهاية الخدمة!)، عندما كانت سورية تعيش "اقتصاد التفقير". فكيف الحال الآن؟

عمليات النهب التي يتعرض لها اقتصاد ومقدرات السوريين، لم تبدأ بوصول بشار الأسد إلى السلطة، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة عما كانت عليه في عهد الأسد الأب، مع إبقائها على الجانب النفطي، كمصدر ثابت ومضمون للأموال التي تدخل مباشرة في خزائن السلطة لا الدولة (العوائد النفطية تصل إلى 6 مليارات دولار سنوياً). ففي عهد الأب كان الاقتصاد مغلقاً، وكانت السرقات تتم (بالإضافة إلى النفط)، عن طريق العمولات (خصوصاً تلك المرتبطة بشراء الأسلحة)، وعمليات التهريب بكل أشكالها، بما في ذلك المخدرات، واستبدال الاحتياطي من العملات الصعبة بكميات مريعة من أوراق النقد السورية المطبوعة في دمشق بدون سند أو رصيد أو غطاء، الأمر الذي أوصل قيمة الليرة إلى ما دون الحضيض. يضاف إلى ذلك، العوائد المالية الضخمة الناجمة على أعمال 17 ميناء غير شرعي (لاسيما في منطقة اللاذقية)، كان يسيطر عليها أشقاء الأسد الأب وأبنائهم. ولأن الاستيراد كان ممنوعاً على مدى أكثر من 17 سنة، فقد "استثمر" الناهبون في المنع! ليستوردوا كل شيء بدون أن يدفعوا قرشاً واحداً للخزينة العامة. وحالهم كان كحال زعيم المافيا الشهير آل كابون، الذي قال في إحدى المرات مستغرباً "كيف يمكن أن أدفع الضرائب والرسوم على أعمال غير شرعية"؟!

في عهد الأسد الابن، كبر من كانوا صغاراً من أبناء الناهبين، ليبتكرو أشكالاً أخرى لأعمال السرقة، تتناسب وتوجه الاقتصاد نحو الانفتاح. والحقيقة أن هذا الاقتصاد لم يكن منفتحاً، إلا على عدد محدود جداً من الأشخاص غالبيتهم من أفراد الأسرة الحاكمة-المالكة، ولا بأس بعدد آخر من الأعوان. ولأنه أصبح للاقتصاد السوري وجه آخر، فقد تحددت مستويات النهب طبقاً لقرابة الشخص من قمة هرم السلطة وولائه لها. فكلما كان قريباً ومقرباً، كلما كانت حصته من الأموال المسروقة كبيرة. وكانت "القطاعات" المولدة لهذه الأموال واسعة ومتعددة ومتشعبة، من عمولات على مشاريع تتعلق بالبنى التحتية، إلى مشاركات قسرية للتجار ورجال الأعمال التقليديين الذين سُمح لهم بمواصلة العمل، مروراً باستثمارات وهمية، وسرقة ما يقرب من 50 في المائة من رواتب السوريين، من خلال تخفيضات غير قانونية في سعر صرف الليرة، لم تفرضها أية حاجة تطويرية أو اضطرارية، وطبعاً هناك الأموال الضخمة الناجمة عن خصخصة عدد من المؤسسات، وإقامة مؤسسات جديدة (مثل الاتصالات) لم يُسمح لغير أفراد الأسرة الاقتراب منها، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة على المؤسسات الانتاجية العامة. ولم يكن الشعب السوري وحيداً في استهداف مقدراته، فقد نال "رجال الأعمال" المُعينين من أموال مستثمرين عرب وأجانب، في عمليات احتيال كبرى، الأمر الذي دفع العديد من المستثمرين الآخرين، إلى التراجع عن أية خطوة باتجاه الاستثمار في البلاد.

هذه الأشكال الجديدة –المتجددة للسرقات، إلى جانب بعض ما تبقى من الأشكال القديمة، ولدت أموالاً هائلة، يمكن أن توفر حياة كريمة طبيعية للشعب السوري، الذي يعيش أكثر من 30 في المائة منه تحت خط الفقر، ويعج في بطالة ترهب أكبر الدول اقتصاداً وثروة. ولم يكتف الناهبون بذلك، فهم يقومون بتهريب الأموال أولاً بأول إلى خارج البلاد، ويخزنوها في ملاذات آمنة، يصعب الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، هرب رامي مخلوف ابن خال الأسد الذي يسيطر عملياً على ما بين 60 و65 في المائة من اقتصاد البلاد، أكثر من 8 مليارات دولار أميركي في غضون خمس سنوات فقط، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية "رجال أعمال" الأسرة، الذي هربوا أمولاً متفاوتة القيمة، كل حسب مرتبته وسرقاته. وعلى الرغم من توقف الأسد منذ سنوات عن إيداع الأموال المنهوبة في المصارف السويسرية، خوفاً من الملاحقة والعقوبات، فقد اكتشف المصرفيون السويسريون أرصدة له بلغت 2,5 مليار دولار أميركي، في حين يقول هؤلاء: إن هذه الأموال هي فقط أرصدة مالية تديرها البنوك السويسرية، ولا تشمل أي أسهم قد يملكها الأسد في سويسرا!

لم تهرب الأموال المنهوبة من سورية بعد اندلاع الثورة الشعبية السلمية العارمة، فهذه الأموال تخرج من البلاد فور انتهاء موسم حصادها! لتُزرع في أماكن أخرى تفيد الناهبين. فلم يحدث أن أفادت أموال منهوبة.. المنهوبين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق