الاثنين، 11 أبريل 2011

إمبراطور الاستثمار في الإرهاب

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


"أولئك الذين يؤلهون أنفسهم، غالباً ما يرون الخراب أمام أعينهم، ولكنهم يدخلون فيه"
ليوبولد فون رانكي مؤرخ ألماني






محمد كركوتــي

في مقالي السابق الذي نُشر بعنوان "أموال ملك ملوك الثائرين"، حاولت حصر الأموال التي نهبها معمر القذافي وعائلتيه الصغيرة جداً والكبيرة قليلاً جداً، واستندت في ذلك، إلى التقديرات الرصينة، على اعتبار أن اللصوص لا يعلنون عن حجم سرقاتهم، بالإضافة طبعاً إلى ما أعلنته أربع حكومات غربية (ليس من بينها الإيطالية والفرنسية والسويسرية ولا أي حكومة عربية)، بأنها استطاعت أن تحدد وتجمد في غضون أيام قليلة فقط، أكثر من 50 مليار دولار أميركي من الأموال الليبية المنهوبة. وهذا لوحده، يدعم مصداقية التقديرات، بأن ما نُهب على أيدي القذافي ودائرته الضيقة، يصل في حده الأدنى إلى أكثر من 200 مليار دولار، موزعة على الشكل التالي: 130 مليار له ولأبنائه وزوجته المفضلة، و70 مليار لزملائه "الثوريين"! وعلى الرغم من أن القذافي لا تنقصه الألقاب، التي منحها لنفسه أو تلك التي اشتراها بمليارات الدولارات، مثل ملك ملوك أفريقيا، وأمين القومية، وإمام المسلمين، وعميد الحكام العرب، وأمير المفكرين، وقائد الثورة، وكبير الثائرين.. وغيرها. أجيز لنفسي أن أمنحه لقباً إضافياً هو "إمبراطور الاستثمار في الإرهاب". وأحسب – وهو من الهائمين بالألقاب- أنه سوف يُسعد بالكلمة الأولى فقط، لا بالتوصيف ككل. فلم يسبق له أن منح نفسه هذا اللقب، وأجزم بأنه لو استطاع أن ينجو من ثورة شعبه –ولن ينجو- لن يتردد في إطلاق اللقب على نفسه. ففي مقال سابق لي، قلت: إن القذافي يأسف بلا شك، من أن زمن الأنبياء والرسل قد انتهى قبل أكثر من 14 قرناً من الزمن.

يقول المؤلف البريطاني-الأميركي كريستوفر هيتشينز:"إن الإرهاب، هو تكتيك يسعى إلى المستحيل، ويطالب به تحت تهديد السلاح". وهذا بالضبط ما قام (ويقوم) به القذافي منذ أكثر من أربعة عقود. فقد مارس (ويمارس) الإرهاب العسكري، وإرهاب العصابات على مبدأ "قطاع الطرق"، تماماً مثلما يمارس عملية التنفس البشري. وكما مأسس الفساد والقمع، مأسس أيضا الإرهاب بكل أشكاله، بما في ذلك، شن الحروب عديمة الجدوى والهدف، واغتيال قادة وسياسيين أجانب، وتنظيم العمليات الانقلابية الخارجية، وتسليح عصابات تأكل اللحم البشري كما تأكل لحوم الخرفان، ونشر الفتن في كل الأرجاء، وازدراء الإنسانية بأقبح الصور. هذا طبعاً بالإضافة إلى الفظاعات التي نالها الشعب الليبي (ولايزال) منه.

وكما هو الحال مع الأموال المنهوبة، التي تُقدر حسب المعطيات الاحتمالية، واستناداً إلى ما تم ضبطه منها حتى الآن، فإن الأموال التي "استثمرها" القذافي في "قطاع الإرهاب"، لا تقل عن 350 مليار دولار. ولكي لا نلتزم جانب المبالغة، أرى من المفيد الإشارة إلى ما قاله الرائد عبد السلام جلود، (الرجل الثاني في ليبيا، عندما كان أولاد القذافي مجرد أطفال، ولا نعرف رقمه الآن) في الذكرى العشرين لاستيلاء القذافي وأعوانه على الحكم. ماذا قال؟ :"إننا أنفقنا ما نسبته 22 في المائة من عائدات النفط الليبية (أي نحو 44 مليار دولار آنذاك) على تمويل ودعم ومساندة حركة الثورة العالمية وحركات التحرر". وبالطبع لم يكن هذا التوصيف حقيقياً، فالغالبية العظمى من "حركات التحرر" هذه، ليست سوى حركات لعصابات تسعى إلى الاستيلاء على الحكم، من أجل الخراب. وتقول مجلة " فورين ريبورت" الأميركية الرصينة :" إن العلاقات التي تربط القذافي ببعض من أكثر الأنظمة القمعية في العالم والحركات المسلحة، قد بدأت في ثمانينات القرن الماضي، عندما كان يُنظَر إليه على أنه واحد من أبرز التهديدات الإرهابية في العالم. وعبر استعانته بأموال وعائدات النفط، قام القذافي بتنظيم حملات تدريبية لأولئك الأشخاص الذين أصبحوا فيما بعد أكثر أمراء الحرب وحشية في كثير من دول إفريقيا، وهو الإرث الذي ترك المنطقة مصابة بالشلل وفي حالة من عدم الاستقرار اليوم". وفي كتابه الذي صدر في العام 2001 بعنوان "قناع الفوضوية"، يقول المؤلف ستيفن إليس:"إن المركز الثوري العالمي الخاص بالقذافي بالقرب من بنغازي، قد أضحى بمثابة (جامعتي هارفارد وييل لجيل كامل من الثوار الأفارقة)، أكثرهم من أعتى طغاة القارة".

غالبية القادة الاستبداديين الدمويين الأفارقة الذين حكموا (أو أولئك الذين يحكمون الآن) بلدانهم بأقصى أنواع الوحشية، إما كانوا من خريجي "مركز القذافي"، أو من المتأثرين بهم، بما في ذلك، بليز كومباوري رئيس بوركينا فاسو، وإدريس ديبي رئيس تشاد، والقاتل الذي فاز في اليانصيب الوطني في بلاده زيمبابوي روبرت موغابي! ولوران كابيلا رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطي، ورئيس ليبيريا تشارلز تيلور الذي يحاكَم الآن في المحكمة الدولية على جرائمه الفظيعة ضد شعبه، بالإضافة طبعاً إلى قادة العصابات في النيجر ومالي وموريتانيا. لا توجد دولة، حكمها خريج من "مركز القذافي" في أفريقيا، إلا وتعيش أو عاشت الخراب والويلات والفظائع. إن هذه "الجامعة"، خرَجت صناع الهموم والمصائب والقتلة والسارقين. خرَجت ناشري وموزعي الأنين المتواصل. خرَجت أولئك الذين حولوا الظلم إلى مؤسسات، والسرقة إلى قطاعات، والقتل إلى سلوك يومي.

أنفق "ملك ملوك الثائرين"، على مدى 40 سنة، قرابة 350 مليار دولار أميركي، على تنظيم المؤامرات الإرهابية، وتخريج القادة الدمويين، وعلى تنفيذ مخططات تآمرية وعدوانية –مفهومة الأهداف- ضد جيرانه ومن بينهم العرب أنفسهم. وبحساب بسيط، بدد "إمام المسلمين" ما يقرب من 9 مليارات دولار سنوياً على هذه المؤامرات. وبلغ عدد عمليات التخريب الخارجية في أربعين دولة عربية وإفريقية وآسيوية وأوروبية على الأقل، بما في ذلك محاولات قلب أنظمة الحكم، والاغتيالات الفردية 127 عملية. من بينها محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت الملك عبد الله بن عبد العزيز. ويقول معارضو القذافي أن هذا العدد في حدوده الدنيا. لن نتحدث هنا، عن صفقات السلاح الذي كدسه "ملك ملوك أفريقيا"، والذي استحوذ على 40 في المائة من عائدات النفط الليبي. وقد قام "عميد الحكام العرب"، بتجنيد وتدريب وتجهيز وتمويل ما بين 15 و20 ألف من المرتزقة من كل الجنسيات، بما في ذلك العربية، وأقام لهم أكثر من 30 معسكراً في كل أنحاء ليبيا. ودعم "أمين القومية"، مالياً ولوجستياً أكثر من 30 منظمة وحركة وعصابة إرهابية على مستوى العالم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ماذا فعل أيضاً؟ أنفق "أمير المفكرين" أكثر من 200 مليون دولار، على ترجمة وطبع وتوزيع كتابه (الأخضر) المريع بكل اللغات، بما في ذلك لغات القبائل الأفريقية آكلة لحوم البشر (غير المكتوبة أصلاً، لا أعرف كيف!)، ولغة الإشارة! وأنفق "قائد الثورة" مليارات الدولارات على تطوير أسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية، ورهن ثروة الشعب الليبي لسنوات طويلة، من أجل دفع تعويضات تاريخية غير مسبوقة الحجم في التاريخ، على عملياته الإرهابية والتخريبية.

وطبقاً لوثائق "ويكيليكس"، فإن "إمبراطور الاستثمار في الإرهاب"، يقفل حنفية النفط أو يفتحها حسب مزاجه، إما لمعاقبة من يزعجه أو لتغطية أية نفقات خاصة. ففي العام 2009، أمر بضخّ 100 ألف برميل إضافي من النفط، لتغطية كلفة احتفالات الذكرى الأربعين لاستيلائه على الحكم!

هذا هو الإمبراطور الذي وصف شعبه بالجرذان. إنه بلا شك كان يتحدث عنه نفسه.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق