الثلاثاء، 22 يونيو 2010

"طاعون" اقتصادي من أزمة "سرطانية"


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )








" من السهل أن تقع في فخ الديون، ولكن من الصعب أن تتحرر منها"
الأديب الأميركي هنري ويلير شو

 
محمد كركوتــي
 
إذا كان الفصل الأول للأزمة الاقتصادية العالمية يحمل عنواناً مستحقاً هو "انهيار المصارف والأخلاق"، إلى جانب عناوين فرعية أخرى مثل " البطالة والفقر والجوع والإفلاس والخداع والفقاعة والفساد" إلى آخر المصائب، فعنوان الفصل الثاني لها هو بالتأكيد " ديون حكومية وأكاذيب"!. وإذا أردنا الاشتقاق من هذا العنوان، لا مانع من أن يكون "ديون حكومات على حساب أجيال لم تولد بعد"!. ولا مانع أيضاً من "ديون منيعة تنكسر أمامها الأعاصير"!. ولا بأس من "ديون تنال ممن يملك ومَنْ لا يملك"!. ولنا أن نشتق ما طاب لنا من دلالات العنوان الرئيسي. فالعالم الآن يشهد الفصل الثاني من الأزمة، من دون فترة استراحة بين الفصلين. و"المسرحية المعروضة" باتت مثل الأفلام المتواصلة التي اعتادت على عرضها بعض دور السينما الرخيصة في غالبية دول العالم. أفلام تبدأ ولا تنتهي، مع فارق واحد فقط، هو أن جمهور هذه الأفلام هم غالباً من التلاميذ الفارين من يوم دراسي، بينما جمهور "مسرحية الأزمة"، هو جزء أصيل من المشهد المسرحي المُدمر!. لقد اتبع مخرجو المسرحية، أحدث آليات العرض. إنهم يعرضونها وفق نظام "ثلاثي الأبعاد"، ليحولوا المشاهد – الضحية، إلى جزء من المسرحية.. إلى طرف أساسي، في حالة تداخل تاريخي بين مَنْ على خشبة المسرح، وبين مَنْ في الصالة!.

تستحق الديون الحكومية ( ولا أقول السيادية، لأنني لم أستطع – حتى الآن - فهم وجود سيادة غارقة في الديون!) وقفة توازيها حجماً، وتتساوى معها زمناً. فهي ليست قروضاً شخصية سيئة، عادة ما تنتهي في خانة "الديون المعدومة"، وليست أيضاً مرتبطة برهن، سرعان ما تُسدَد من قيمة الأصول المرهونة، وليست أيضاً وأيضاً من تلك المُغرية، الذين ينتظرونها "القناصون" الباحثون عن استثمارات حتى في "قِطاع الهموم". إنها ديون أجيال وُلدت وأخرى لم تُولد بعد، إنها ديون.. الاقتراب منها يَقتل، والابتعاد عنها يَخنق!. إنها تتوالد مثل الفئران، لتجلب معها طاعوناً من نوع، لا يفيد معه الحظر ولا تنفع معه الهجرة ولا يقضي عليه ترياق. إنه " الطاعون الاقتصادي" الآتي من أزمة سرطانية!. والمصيبة أن أحداً – حتى الآن – لم يستطع أن يقدم فكرة حل مبتكرة، سريعة النتائج، بمعزل عن الحلول التقليدية التي لا تحتاج إلى " متفذلكين اقتصاديين". وهي كالتالي: التقشف، وتجميد الرواتب، ورفع سن التقاعد، وخفض الإنفاق، ومراقبة المصارف، وتوقف الحكومات عن الاستدانة لـ "شراء" أصوات الناخبين. والمصيبة تتعاظم، لأن الحلول التقليدية نفسها، "تُنتج" تبعات اجتماعية بل ووطنية، تبدأ خطيرة، وإذا ما قُدر لها أن تنتهي.. فهي تنتهي بكارثة.

يقول الفيلسوف الأميركي الشهير رالف إيمرسون: " الرجل الغارق بالديون هو مجرد عبد". وقبله قال بنجامين فرانكلين أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية: "من الأفضل أن تأوي إلى سريرك بدون عشاء، على أن تنهض بالديون". لنرى بماذا تسبب "طاعون" ديون الدول الصناعية الكبرى (أو التي كانت كبرى)، منذ انفجار الأزمة "السرطانية". يُقدِر "معهد إدارة التنمية" السويسري المعروف اختصاراً بـ AMD ارتفاع متوسط ديون دول مجموعة العشرين ( أي العجز في ميزانياتها) من 76 في المائة من مجموع إجمالي ناتجها الداخلي في العام 2007 إلى 106 في المائة في العام 2010. وهذه المجموعة تضم أكبر اقتصادات العالم!.

وإذا كانت هذه النسبة تمثل صدمة، فإنها ليست كذلك عندما يتوقع المعهد نفسه، أن بعض الدول في المجموعة نفسها، وفي مقدمتها اليابان، لن تتمكن من خفض ديونها إلى مستوى مقبول قبل متى؟.. قبل العام 2084 !. وبالانتقال إلى القارة الأوروبية العجوز التي "تصابت" كثيراً على الصعيد الاقتصادي في العقدين الماضيين، فإن الزمن الذي تحتاجه دول منطقة اليورو، لتخفيض ديونها إلى 60 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي ( وفق معايير معاهدة ماستريخت الأوروبية التي تم التوقيع عليها في العام 1991)، يُحسب بالعقود لا بالأشهر ولا بالسنوات. فعلى سبيل المثال ستحتاج اليونان إلى 21 عاماً لإتمام ذلك، وفرنسا إلى 19 عاماً، وإيطاليا إلى نصف قرن، والبرتغال إلى 27 عاماً، وبلجيكا إلى ربع قرن. وخارج منطقة اليورو، هناك أيسلندة التي لن تستطيع خفض ديونها إلى المستوى المقبول قبل العام 2032، والولايات المتحدة الأميركية لن تفلح في ذلك قبل عام 2033، بينما تحتاج اليابان – كما أشرت - إلى 74 عاماً، لتحقيق ذلك!.

تحاول بعض الحكومات الغارقة بالديون التخفيف من هول الحقيقة، إما بتكتمها عن فداحة وواقع ديونها، أو بإعلانها بصورة مواربة، بأن غالبية ديونها، هي قروض من مؤسسات وطنية. ولو استطاعت تغيير التسمية لفعلت، لكن الديون هي الديون، سواء أتت من الداخل أو الخارج، وهي بمثابة قيد، ليس مهماً أن تكون صناعته محلية أو خارجية. وهذه الحكومات تعي ذلك تماماً، مثلما تعي بأن عليها تسديد قروضها، سواء بحياتها أو بحياة حكومات أخرى مقبلة، وعليها أن تعلم، بأن الدائنين يملكون دائماً ذاكرة أقوى من المدينين. ولعل المشكلة الأكبر، هي تلك التي صورها رئيس البنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه، في معرض تناوله الداء الاقتصادي اليوناني. ماذا قال؟: " إن مشكلات الديون اليونانية ستؤثر حتماً على دول أخرى في منطقة اليورو، وإن هذا الأمر يحدث بسرعة شديدة للغاية ..أحياناً في غضون ساعات". يا إلهي.. وصل مسلسل التردي إلى زمن يُحسب بالساعات لا بالأعوام!. يضاف إلى ذلك، أن هناك ديون غير ظاهرة داخل النظام الاقتصادي نفسه.

ماذا تفعل الحكومات المَدينة؟. مرة أخرى بدأت تلجأ إلى الحلول التقليدية. لنأخذ أسبانيا مثلاً في هذا المجال. لقد خفضت الأجور، وجمدت المعاشات. وماذا فعلت أيضاً؟ ألغت مساعدة بقيمة 2500 يورو تمنح مقابل ولادة كل طفل. وبهذا الإجراء الأخير، قامت الحكومة عملياً بسرقة مستحقات الأجيال التي لم تولد بعد، في حين أنها تُحمل هذه الأجيال جبالاً من ديون لم يقترضوها، ذهبت غالبيتها إلى مؤسسات مالية وغير مالية لإنقاذها، من بركان الأزمة الاقتصادية العالمية. إنها أموال مستحقة عليهم، قبل وبعد ولادتهم. لقد صدق الممثل اليوناني – الأميركي بالكي بارتوكوموس حين قال:" أنا مدين.. إذن أنا أميركي حقيقي". والواقع إن هذا ينطبق على كل فرد في هذا العالم، تعيش حكومته في بحار من الديون. فيمكنه القول أيضاً: " أنا مدين.. إذن أنا يوناني أو بريطاني أو ياباني أو برتغالي أو أيسلندي أو أسباني أو إيطالي حقيقي".

إن "طاعون" الديون في ظل الأزمة العالمية، وصل إلى مرحلة متقدمة، لا ينفع معها اعتماد نظام الجباية. فهذا النظام لا ينجح إلا في حالات القروض الشخصية التقليدية. الذي يحتاجه هذا العالم الآن، حكومة عالمية اقتصادية، تحصي الديون، وتعمل على تحصيلها وفق نظام إنساني، بصرف النظر عن المدة المطلوبة للتحصيل. فإفلاس الدول مع الإفلاس الاجتماعي- المعيشي فيها، سيٌقدم الفصل الثالث والخطير ( وليس الأخير) للأزمة الاقتصادية العالمية. في هذا الفصل ستتحول خشبة المسرح نفسها، إلى صالة لجمهور غاضب، لن يرحم الممثلين الفاشلين، الذي كانوا بالأمس القريب، مجموعة عالمية من " المُلهَمين" الاقتصاديين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق