الثلاثاء، 15 يونيو 2010

محاكمة "عبقري"؟!


( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









" هناك ثلاثة أشياء في هذا العالم لا تستحق الرحمة.. النفاق والاحتيال والطغيان"
القس البريطاني فريدريك وليام روبرتسون

 
 
محمد كركوتــي
 
في أحد أيام العام 1995، اتصل واحد من كبار المدراء في مصرف " بارينجز" Barings – أقدم المصارف الاستثمارية البريطانية تأسس عام 1762 – بمدير ديوان الملكة إليزبت الثانية ملكة بريطانيا – أكبر وأشهر مستثمرة في هذا المصرف – ليبلغه بأن المصرف في طريقه إلى الانهيار التام، وليعرب عن أسفه لصاحبة الجلالة، التي درجت على استثمار أموالها "مطمئنة" في المصرف!. لم يصدق مدير الديوان ما سمعه، من فرط صدمته بالخبر. حَسِب وقتها، أن هذا الاتصال ليس سوى نكتة أو مقلب من تلك التي تستهدف عادة الأسرة المالكة في بريطانيا، لاسيما من جانب مُخبري الجرائد الصفراء الباحثين عن خبر صادم هنا، ومعلومة عجيبة هناك. ولكن لم تدم حسابات مدير الديوان طويلاً، فبعد ساعات، أُعلن رسمياً عن انطلاق عملية بحث، للقبض على نيك ليسون ( 28 سنة) السمسار الذي يعقد الصفقات في بورصات آسيا ( لاسيما سنغافورة وهونج كونج) لحساب "بارينجز". فهذا الهارب الذي كان يلقبه رؤساؤه بـ "الشاب المعجزة"، كبد مصرفه خسائر بلغت 1,3 مليار دولار أميركي، في صفقات عقود آجلة، وحوَل المصرف بين ليلة وضحاها، إلى مجرد خزائن ليس فيها دولار واحد!. وبين ليلة وضحاها أيضاً، تبدل وصفه من " الشاب المعجزة"، إلى التاجر المارق Rogue Trader .

في العام 2008، أعاد التاريخ نفسه، ولكن على الجانب الآخر من بحر المانش، في فرنسا، عندما صدرت مذكرة توقيف بحق سمسار الأسهم جيروم كيرفييل ( 33 سنة) ، الذي كان يُوصف من قِبل رؤسائه بـ " الشاب العبقري"!. لماذا؟ لأنه كبد مصرفه "سوسيتيه جنرال" Société Générale – ثاني أكبر البنوك الفرنسية تأسس عام 1864 – خسائر بلغت 7 مليارات دولار أميركي. وهذه الخسائر هي الأكبر التي يسببها متعامل أو سمسار واحد في تاريخ المصارف قاطبة. فقد لعب كيرفييل بهذه الأموال، في عمليات "عبقرية"، أدخلته التاريخ من الباب الخلفي، وهو نفس الباب الذي دخل منه "المعجزة" ليسون، مع المُطبلين لهما على جانبي المانش. هذا الأخير حُكم بالسجن ست سنوات ونصف السنة بعد أن أعلن " بارينجز" إفلاسه، لكنه خرج بعد أربعة أعوام، بسبب إصابته بسرطان القولون. وبعد عامين تقريباً من جريمته، تبدأ محاكمة كيرفييل، مع اختلاف وحيد بين "المعجزة والعبقري"، هو أن جريمة الفرنسي وقعت بينما شرارات الأزمة الاقتصادية في أوجها، في حين كان الاقتصاد العالمي في منتصف تسعينات القرن الماضي، مستقراً، بل ومزدهراً، بصرف النظر عن معايير الازدهار آنذاك.

في هذا النوع من القضايا، نادراً ما يكون هناك مجرم أو محتال أو سمسار أو تاجر مارق واحد فقط. هي من تلك التي تضم "أبطالاً" من كل المستويات. السمسارة – بالتأكيد – هم في المقدمة، لكن المُحرِكين – بل لنقل المُحرِضين – يحتلون المقاعد الرئيسية في "غرفة التحكم"، إنهم يوقعون على صرف الأموال لهؤلاء السمسارة، بصورة أوتوماتيكية بغية جني الأرباح، وعندما تجري الرياح بما لا يشتهون، يواصلون التوقيع على أذونات الصرف، من أجل تعويض الخسائر. لا يختلفون كثيراً عن المقامرين، الذين يواصلون اللعب والاستدانة في محاولة عبثية لتعويض الخسائر. هؤلاء لا يريدون أن يقتنعوا بحقيقة، أنه ليس هناك رابح دائم في المقامرة، بل هناك خاسر مؤكد فيها!. ويتجنبون الاعتراف بجدوى الحفاظ على ما تبقى من الممتلكات، كسبيل وحيد للحد من الخسائر، والتأسيس عليها للانطلاق مجدداً نحو مزيد من العوائد، أو على الأقل لتفادي الانهيار. ولذلك فهم يتحولون فوراً من تجار ومستثمرين، إلى مقامرين وسمسارة في تجارة وهمية، ورقية، فقاعية، آنية. فعندما تنتفي المعايير التجارية، تنتفي معها عوامل الاستدامة.

يقول الفيلسوف والأديب الإغريقي سوفوكليس :" من الأفضل أن تفشل بشرف، على أن تنجح بالاحتيال". ويتفق معه السياسي والأكاديمي البريطاني تشارلز سيمونز، بعد قرون من الزمن تفصلهما عن بعضهما البعض، حين يقول :" إن أهم جزء من الاحتيال، هو المزيج بين الخزي والعار". خلال عملي الصحافي الطويل في لندن قمت بمتابعة قضية ليسون من بداياتها. وفي مقابلة خاصة معه آنذاك قال لي "المعجزة: "نعم .. لقد قمت بمضاربات قاتلة، في سياق محاولات لاستعادة الخسائر التي مُنيت بها في عمليات الشراء والبيع في البورصة. نعم قمت باستغلال كل ما أمكن من علاقاتي في (بارينجز)، من أجل الحصول على موافقات لضخ مزيد من الأموال في البورصة، وقمت ببعض المخالفات، ولم تكن هناك طريقة أخرى، لتقليل الخسائر". ولكن هل ضاربت حتى الموت؟ كان هذا سؤالي التالي له. يرد ليسون: "ضاربت لكي أستعيد خسائري، لكن حسابات واتجاهات الأسواق وقتها حوَلت مضارباتي، إلى أداء يتناغم مع الموت"!.

لايمكن لأي مسؤول كبير أو صغير في "سوسيتيه جنرال"، أن يقول عكس ذلك في حالة "العبقري" كيرفييل. فالتداعيات – كما العوامل – واضحة وواحدة. والتساؤل الأكبر هنا: هل يمكن لأي سمسار أو مضارب أو وسيط – لنختر ما نشاء من تسميات – أن يحصل على هذا الكم الهائل من التمويل المالي، دون معرفة أي من المسؤولين الذين لابد أن يوقعوا على التحويلات المالية؟. فالمبالغ ليست بالآلاف أو بعشراتها أو مئاتها، بل بملايينها. ومهما قال المسؤولون في المصرف الفرنسي عن أن العملية التي قام بها كيرفييل استندت إلى تحويلات بسيطة، تمت التغطية عليها بأساليب معقدة، لكن من المؤكد أن بعض الأشخاص المشرفين مباشرة على هذا السمسار، قَبلوا أن يدخلوا معه المجازفة، ليس حباً فيها، بل من فرط وهمٍ باستعادة خسائرهم، دون الاعتراف بالحقائق التي تحكم الأسواق، والتي لا ترحم أحداً، مهما كانت كريمة في بعض الأحيان. فالمجازفة الصغيرة تؤدي إلى مكاسب كبيرة، وتؤدي أيضاً إلى خسائر بحجمها، والأمر كذلك مع المجازفة الكبيرة التي تقود إلى أرباح أكبر، وتقود أيضا إلى خسائر تسبب انهياراً لمؤسسات بأكملها.

المضحك في قضية كيرفييل، أن هيئة تنظيم قطاع المصارف الفرنسية، فرضت في يوليو/ تموز من العام 2008 غرامة مالية قدرها 6.3 مليون دولار أمريكي بحق "سوسيتيه جنرال". وماذا فعلت أيضاً؟ وبخت المصرف على الإهمال والتقصير، لأنه أُخفق في رصد المشكلة والتعامل معها قبل أن تتفاقم!. والمشكلة التي تواجه السلطات في كل أنحاء العالم، أن القوانين المعمول بها ضد عمليات الاحتيال، لا تزال دون مستوى زخم آليات الاحتيال نفسه. ففي الوقت الذي تشهد فيه هذه العمليات، ولادة "ابتكارات" جديدة على مدار الساعة، لا تزال القوانين هي نفسها المعمول بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

حينما وقع العبقري كيرفييل، وفي الوقت الذي كان فيه رؤساؤه يحصون الخسائر، كتبت مقالاً بعنوان "ثقافة الكازينو"، أردت من خلاله، أن أربط سلوكيات سماسرة الأسهم، بأخلاقيات وممارسات المقامرين. نعم هي كذلك. فالخاسر ( المقامر) الذي يريد أن يستعيد خسائره يلعب بكل ما هو متاح وغير متاح، ويرتكب كل الأفعال مهما كانت مُشينة، خصوصاً إذا ما دخل حالة التورط الكامل. وما فعله ليسون وبعده كيرفييل، لم يكن سوى محاولات مقامرين لتعويض الخسائر، التي كانت أرباحاً في يوم من الأيام. فعندما تبدأ ذهنية المقامر بالعمل، تنسحب حكمة المراقب (اللاعب) المالي وفطنته من الساحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق