الثلاثاء، 8 يونيو 2010

مَنْ قال إن صناعة السلاح في أزمة؟!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")





" القوة العسكرية تكسب المعارك، والقوة الروحية تكسب الحروب"
وزير الخارجية والدفاع الأميركي الراحل جورج مارشال


محمد كركوتــي


في كتابي الأول عن الأزمة الاقتصادية العالمية الذي صدر في مايو من العام 2009 عن "مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية" بعنوان " في الأزمة"، خصصت صفحات عن السلاح والأزمة، أي عن النفقات العسكرية، ومدى تأثرها في هذه الأزمة التي أثَرت على كل شيء في هذه الدنيا. وقد عبَرت وقتها عن مواقف هي أكثر من الاستغراب وأقل من الصدمة، من جراء عدم تأثر الصناعة العسكرية سلباَ بالتداعيات الاقتصادية الحارقة، بل والماحقة. وقد استحقت هذه الحالة عنواناً وجدته مُعبراً، هو "السلاح في وجه الأزمة"!. فبينما كانت دول وحكومات تترنح تحت لكمات الأزمة وضرباتها التي أضحت أوتوماتيكية، كان صانعو السلاح في زحمة انشغالهم، بحساب العوائد المالية الهائلة التي تصب في خزائنهم. لقد كانوا أشطر الأثرياء قاطبة، فهم لم يستثمروا هذه العوائد بشراء رهون عقارية، سرعان ما تحولت إلى أموال وهمية. ولم يشتروا أسهماً في شركات متلألئة بأضواء ساحرة من الخارج، وخراب مريع من الداخل. ولم يضعوا الأموال في مصارف لا خزائن فيها، أو مؤسسات كانت عاجزة حتى عن تسديد رواتب موظفيها.

وفي المحصلة.. عزز السلاح سمعته بأنه " قطاع" لا يُقهر ولا يتزعزع، وأنه يزدهر في أوقات الأزمات الاقتصادية، وأزمنة المحن المعيشية، وأن هذه الأزمات – مهما بلغت حدتها - تظل متأخرة عنه ولو بخطوة واحدة على الأقل، على عكس المؤسسات والشركات العالمية التي كانت تتباهى – قبل الأزمة - بأن قوة لم توجد بعد للنيل من مكانتها، بل أن بعضها كان يفتخر بأنه أقوى من بعض الدول. في عز الأزمة، لم يتخلف مصنع واحد للسلاح، عن المشاركة في المعارض العسكرية، بل أن الحجوزات المستقبلية لهذه المعارض ارتفعت ( شاركت في معرض الدفاع الدولي 2009 الذي يعقد كل عامين في أبوظبي 900 شركة للإنتاج العسكري من 48 دولة، بزيادة بلغت 20 في المائة على الدورة التي سبقتها )، بينما كانت "الحجوزات" الحكومية تُلقى على الشركات والمؤسسات غير العسكرية، من أجل وقف انهيارها، وتوفير أكبر قدْر من الحماية الممكنة للأموال العامة والخاصة. فصناعة السلاح، يمكنها أن تقدم – هي نفسها– الحماية للحكومات!. المال متوفر، والطلب على منتجاتها يزداد على مدار الساعة. والأموال التي تحتاجها مدرسة أو مستشفى أو بحوث علمية أو كارثة بيئية وإنسانية، تُحرَم عليها، وتُقدم خالصة لتوفير السلاح!.

في أقل من عامين على اندلاع الأزمة العالمية، بلغ حجم الإنفاق العسكري مستويات تاريخية، توازي تاريخية الأزمة نفسها. وعلى الرغم من تبدل الأولويات – بفعل الأزمة- ظل هذا الإنفاق متقدماً بخطوات "رشيقة" وقوية في آن معاً، لا تهزها قوة، ولا يقف في طريقها عائق. وفي هذا العالم معهد، اتُفق على نزاهته وحرصه على جودة إحصائياته وأرقامه هو "معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام" Stockholm International Peace Research Institute المعروف اختصاراً بـ SIPRI والذي يتخذ من العاصمة السويدية استوكهولم مقراً له. وطبقاً لهذا المعهد، فإن العالم خصص 1531 مليار دولار أميركي (1244 مليار يورو) للقطاع العسكري في العام 2009، مرتفعاً 5,9 في المائة عن مخصصات العام 2008، و49 في المائة عن ما أُنفق في العام 2000، بالأسعار الثابتة. وإمعاناً في النزاهة والدقة، فقد أعلن المعهد، أنه يقدم إحصاءات الإنفاق العسكري لـ 65 في المائة من الدول التي تمكن من الحصول على أرقام منها في هذا المجال، أي أن الأموال التي أُنفقت لا تشمل 35 في المائة من بقية دول العالم!.

وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة الأميركية للعثور على دولار هنا وآخر هناك، للإيفاء بخطط الإنقاذ المالية الضخمة التي خصصتها للمؤسسات والشركات الفاشلة والمنهارة، واصلت تسيُدها للمشهد " الإنفاقي" العسكري!. فقد أثبتت مرة أخرى، أن تغيير الإدارات الحاكمة فيها، لا يؤدي بالضرورة إلى انتهاج سياسة إنفاق عسكري معتدلة، بصرف النظر عما يقال، بأن عمليات حفظ السلام، تتطلب زيادة الإنفاق. فهذه العمليات في الواقع ( تُقدر تكلفة مهمات قوات حفظ السلام التي تتكون من 54 بعثة دولية بـ9,1 مليار دولار في العام 2009، بينما خصصت واشنطن 65 مليار دولار لعملياتها العسكرية في أفغانستان في ميزانية العام 2010 وقدرت ميزانية العمليات في العراق بـ61 مليار دولار)، لا تحتاج إلا إلى جزء يسير من هذا الإنفاق، الذي بلغ في العام 2009 أكثر من 661 مليار دولار، بزيادة 47 في المائة عن العام 2008. وحسب المعهد نفسه، فإن الزيادة الأميركية تشكل أكثر من نصف الزيادة في العالم (54 في المائة). من يأتي في المركز الثاني؟ الصين بـ 100 مليار دولار ، ثم من؟ فرنسا بـ 63,9 مليار دولار. وحسب إحصاءات العام 2008 تنفق دول حلف شمال الأطلسي ( الناتو) المكون من 28 دولة أكثر من 825 مليار دولار سنوياً، بينما ينفق الاتحاد الأوروبي، وفق نفس زمن الإحصاءات أكثر من 254 مليار دولار. وهذه الأرقام شهدت بالطبع ارتفاعاً كبيراً في الأشهر الـ 18 الأولى من عمر الأزمة الاقتصادية العالمية!.

يقول الرئيس الأميركي الراحل دوايت أيزنهاور: " كل مسدس يُصنع، وكل سفينة حربية تُبنى، وكل صاروخ يُطلق.. إنها بمثابة سرقة جائع"، ومهما حاول البعض تجميل صورة حالة الإنفاق العسكري، فإن الغالبية العظمى من دول العالم، وفي مقدمتها الدول الكبرى، لا تزال تضع الإنفاق العسكري، خياراً استراتيجياً، حتى في ظل الركود أو الكساد الاقتصادي، وحتى لو وضعنا في الميزان، نفقات عمليات حفظ السلام، ومكافحة الإرهاب والمخدرات!. ومثل هذا الخيار الاستراتيجي، يُعطل أو يُضعف، كل تحرك باتجاه التعاطي مع الضرورات الأخرى.. الإنسانية في مقدمتها، وبالطبع ينشر توتراً وارتياباً وشكوكاً في الأجواء، لا ينجم عنها سوى أزمة هنا وأخرى هناك. وتكفي الإشارة إلى أن ثماني دول نووية في هذا العالم ( الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل)، تمتلك 8100 رأساً نووياً، من بينها حوالي 2000 رأس في حالة هجومية، ينقصها ضغط الزر فقط، لتنشر الموت والخراب والتشويه البشري المستدام!.

لا أحد يطالب بوقف تجارة السلاح. فهذه "السلعة" ضرورية لحماية الحدود، لاسيما في الدول التي تُنشد السلام، ولا تسعى إلى العدوان، وترغب في التنمية الداخلية، ولا تحب تصدير الأيديولوجيات إلى الخارج. غير أن عدد هذه الدول يظل أقل بمستويات مرعية، من تلك التي توجه السلاح إلى الجهات الخطأ، إضافة طبعاً إلى الحركات والمليشيات والحكومات المارقة التي تعيش على تجارة السلاح والقتل، وتستمد حياتها من عدم الاستقرار، ومن الفوضى التي تؤمن أفضل الوسائل المَعينة لـ "قُطاع الطرق". وإذا كانت هناك بعض الضوابط لإنتاج السلاح في الدول الكبرى، فهي غائبة تماماً في غالبية دول العالم، وإذا أردنا أن نضيف هماً آخر على هذه القضية، فإن معظم الصفقات العسكرية تتم بصورة سرية!. لن أتحدث هنا عن تجارة الأسلحة في السوق السوداء، التي لا تعمل عن طريق تجار، بل عصابات وسماسرة. وهذه لوحدها تندرج ضمن نطاق الإنتاج العسكري، سواء أكان شرعياً أم لا. ففي هذا العالم أكثر من 640 مليون قطعة سلاح خفيفة، تقتل ألف إنسان يومياً!. فكيف الحال بالسلاح الثقيل؟!.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق