الاثنين، 6 يناير 2014

الأموال القذرة لا ينظفها إلا أصحابها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

 
«المال لا يتكلم .. المال يشتم .. من يحفل؟!»
بوب ديلان - شاعر ومغن أمريكي


كتب: محمد كركوتـــــي
 
الأموال المشينة التي تم تهريبها من 150 دولة نامية في عام واحد فقط، بلغت 946,7 مليار دولار. وهي أموال تفوق حجماً المساعدات والمعونات والمنح الأجنبية التي تتلقاها هذه الدول، وقد بلغت هذا الحد في عام 2011، وارتفعت 13,7 في المائة، مقارنة بالأموال القذرة نفسها التي تم تهريبها في عام 2010. وهذه النسبة تفوق في الواقع النمو (إن وجد) في بعض الدول النامية بعشرات المرات، كما أنها متوالدة متجددة، شرط الحفاظ على قذارتها. وإذا كانت سرقة فرد واحد جريمة، علينا أن نبحث عن توصيف لسرقة أمم بأكملها، ونهب مقدراتها، وإبقائها في حالة عوز دائم، وفقر ينمو، كما السرطان الخبيث. إنها ببساطة، أموال يمكن أن تحقق النمو الذي أضحى في ظل السارقين حلماً. لكن مهلاً.. الحلم نفسه لم يعد يظهر لا في اليقظة ولا في المنام.
هذه الأرقام التي أعلنتها منظمة النزاهة العالمية، جديدة بارتفاعها، ولكنها ليست كذلك في طبيعتها. فالناهبون هم أنفسهم، كما المنهوبين لم يتغيروا. ولأن الفساد والخراب متأصل في المنطقة، فقد تصدر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المشهد العام للأموال القذرة. فهذا ''القطاع''، هو الوحيد الذي يحقق نمواً، في دول لم تعرف النمو الحقيقي إلا نظرياً. المصادر كثيرة، تبدأ بالفساد ولا تنتهي بالرشى والتهرب الضريبي ونهب مقدرات البلاد والصفقات المشبوهة، والمساعدات المسروقة. هناك دائماً مصادر متوافرة للأموال القذرة، أو ''مشاريع'' تتحول فجأة إلى ''مصنع'' لها. لقد حسبتها منظمة النزاهة العالمية، فمقابل كل دولار من مساعدات التنمية الأجنبية التي تذهب للدول النامية، تضيع عشرة دولارات عبر تدفقات الأموال القذرة. وهذا يعني، أن المساعدات نفسها أخفقت في بعض البلدان النامية، في أن تكون حتى ''مساحيق'' تجميلية للاقتصادات فيها.
وفي الوقت الذي يبدو للبعض أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008 في أوجه صانعيها قبل الأبرياء منها، ستكون عاملاً لانخفاض الأموال القذرة والمشبوهة، فإن الأمر في الحقيقة ليس كذلك. ففي الأزمات تزدهر الجريمة وتنمو، بينما تكون كل القطاعات في حالة انكماش. ولذلك لا غرابة في ارتفاع حجم الأموال القذرة بين عامين بمعدل مريع وصل بالفعل إلى 13,7 في المائة. فطبقاً للمنظمة نفسها، فقد ارتفعت التدفقات غير المشروعة من دول المنطقة (أي منطقتنا) 31,5 في المائة بين عام 2002 و2011. أي أنه في عز الأزمة الاقتصادية كان الازدهار المشين في أوجه، بينما كان العالم يحصي ضحاياها، بما في ذلك الدول الغربية نفسها. واللافت هنا، أن دول منطقة إفريقيا جنوبي الصحراء، ظهرت أقل فحشاً وفساداً. فالأموال التي تم تهريبها منها ارتفعت في السنوات العشر الماضية حتى عام 2011 بنسبة 20,2 في المائة، أي أقل بما يزيد على 10 في المائة، عما هي عليه في المنطقة العربية.
لا يزال حراك الدول التي سعت إلى مواجهة هذه الكارثة المتواصلة، دون مستوى الجريمة الكبرى التي ترتكب، بما في ذلك الجهود التي تبذلها دول مجموعة العشرين، والاتفاقيات التي توصلت إليها بهذا الصدد على مدى السنوات القليلة الماضية. وهي بذلك أخفقت في سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الدول النامية المنهوبة، أو حتى في الانطلاق من المربع الأول. فكثير من السياسات التي تم التوصل إليها، لا تصمد أمام الأدوات المتجددة لناهبي الفقراء. يضاف إلى ذلك، وجود أدوات معقدة مصرفية وغيرها، في الدول نفسها التي تحارب الناهبين! فعلى سبيل المثال، لا تزال المصارف والمؤسسات المالية الكبيرة ترتكب جرائم كبيرة في هذا المجال، إلى جانب شركات ومؤسسات أخرى عقارية وتجارية ونفطية وصناعية مختلفة. دون أن ننسى، أن الملاذات الآمنة، لا تزال آمنة، رغم كل ما تم اتخاذه على مدى السنوات الماضية ضدها. وقد طغت خطة ملاحقة مواطني الدول الكبرى ضرائبياً في الخارج من قبل حكوماتهم، على مخططات ملاحقة الأموال المنهوبة.
الأموال المنهوبة من الدول النامية تتدفق خارجها. وهي في الواقع خلقت اقتصاداً عالمياً، لو أضيفت إليه عوائد الجريمة المنظمة بكل أطرها وأشكالها، فإنه يصل إلى 2000 مليار دولار على الأقل سنوياً! أو ما يوازي حجم الاقتصاد الإيطالي. فهؤلاء الذين ينهبون الشعوب، إما شركاء مباشرون للمجرمين الدوليين، أو أنهم شركاء عن طريق طرف ثالث، ولا توجد ساحة لهم غير تلك الساحة المريعة. فالمجرمون يتعاونون دائماً، ويتعاونون أكثر عندما يشعرون بخطر قد يصيبهم. ويتكاملون عندما يصبح الخطر حقيقياً ومباشراً. ولا ينقصهم المتعاونون ''الشرعيون''. تكفي الإشارة هنا إلى أن أموال الجريمة المنظمة والفساد وتلك المنهوبة من الشعوب، حافظت على بقاء النظام المالي العالمي قائماً إبان الأزمة الاقتصادية العالمية. وفي فترة من الفترات، شكلت عائدات الجريمة بكل أشكالها، السيولة الوحيدة المتاحة لبعض المصارف والمؤسسات المالية. إن ملاحقة الأموال المنهوبة من شعوب البلدان النامية، يمكن ببساطة أن تنطلق من الساحة الغربية نفسها. وهي بذلك تنظف ما تبقى من أدران في مؤسساتها المالية، وفي الوقت نفسه، تنقذ أموال شعوب، لا تعرف إذا ما كانت ستعثر على خبزها في اليوم التالي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق