الاثنين، 19 نوفمبر 2012

في إيران.. جهاد الاكتفاء الذاتي أيضاً!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«ثمن العظمة.. المسؤولية»
ونستون تشرتشل، رئيس وزراء بريطانيا الراحل


كتب: محمد كركوتـــي


في إيران، لا يمكن تجاهل تشكيلة من ''الجهادات'' - إن جاز التعبير - المتنوعة و''المتميزة''، بل والفريدة، كما لا يمكن إلا الانتباه لتتطابقها مع ''الصرعات''، مع اختلاف واحد بينهما، وهو أن لـ''الصرعة'' أجل لا يكون طويلاً عادة. لنتذكر فقط ''البوهيمية'' و''الهيبز'' و''البانكس'' و''الروك'' و''الراي'' وغيرها، التي انفجرت كصرعات في مدد زمنية محددة ومختلفة. والحق، لم يفكر مفجروها في استدامتها أصلاً. بينما ''الجهادات'' الإيرانية، ليست متنوعة فحسب في الزمن الواحد والمكان الواحد، بل تحتضنها بيئة سياسية طائفية ''مهدية'' و''خمينية''، توفر لها كل أشكال الاستدامة، بل وتكرسها كمنهج للدولة نفسها. فالجهاد بأنواعه وألوانه، جزء لا يتجزأ من ''جودة'' الوطنية! في الدولة الوحيدة في هذا العالم التي ''دسترت'' - من دستور - الطائفية! ووضعتها جنباً إلى جنب، النشيد والعَلَم وشكل الحكم.
بعد ''الجهاد'' الطائفي، والسياسي، والاقتصادي، والشعبي، و''جهاد'' تصدير الثورة، و''جهاد'' حماية سفاح سورية بشار الأسد، و''جهاد'' الاستحواذ على العراق، وغيرها من ''الجهادات''، انطلق في إيران ''جهاد'' ماذا؟ الاكتفاء الذاتي! وهو ''جهاد'' ليس جديداً تماماً، متفرع من ''اقتصاد الحرب'' الذي أطلقه علي خامنئي ''مرشد'' الثورة، ولكن سرعان ما حوله إلى ''جهاد'' اقتصادي. فالخراب المعيشي الذي تشهده البلاد حالياً، فرض على ''المرشد'' هذا التحول. ولن أستغرب لو قام بتحويله مجدداً، إلى ''النفير'' الاقتصادي، وبذلك ينتقل الاكتفاء الذاتي من حالة ''الجهاد'' إلى ''النفير''. وفي الوقت الذي تتناقص فيه المواد الاستهلاكية بكل أنواعها في إيران، ما زال خامنئي يعتقد أن ''الجهاد'' المتجدد قابل للاستهلاك. وكأن الاضطرابات والمنازعات التي تحدث في البلاد، بحكم الأزمة الاقتصادية الداخلية المخيفة، تحدث في بلد آخر، دون أن ينتبه إلى أن بضاعته هذه لم تعد صالحة للاستهلاك الآدمي حقاً، وبالتالي يستحيل العثور على من يشتريها.
على خطى بشار الأسد، قرر النظام في إيران حظر استيراد عدد كبير من السلع الأجنبية، التي تدخل ضمن قوائم الكماليات في معيار الأسد، والفاخرة في تقدير خامنئي. وحسب اللوائح الجديدة، فقد شمل الحظر 70 سلعة على الأقل، تراوح بين السيارات الفارهة والكومبيوترات المحمولة والهواتف النقالة والأجهزة الكهربائية المنزلية ومستحضرات التجميل وغيرها. باختصار، شُطبت السلع التي يستحيل إنتاجها محلياً، وفُرض حظر استيراد السلع، التي يمكن إنتاجها داخل إيران. والسبب معروف، وهو حماية ما تمتلكه البلاد من العملات الأجنبية الصعبة. ولأن تناغم الخراب بين الأسد وخامنئي وصل إلى أوجه، لم يلتفت النظام الإيراني إلى أن خطوة سفاح سورية بهذا الخصوص لم توفر له حصانة تذكر للعملات الأجنبية المتبخرة، بل إن هذا الأخير، عاد عن قرار الحظر بعد أيام قليلة من فرضه، بصورة جسدت التخبط الذي يعيشه. فقد تحول القرار نفسه إلى مادة للسخرية لفترة طويلة، على اعتبار أنه لا يمكن أن تسند ناطحة سحاب آيلة للسقوط بعود ثقاب.
فالقرار الإيراني الجديد الذي صاحبه إطلاق ''جهاد'' الاكتفاء الذاتي، سيوفر للخزينة العامة 4 مليارات دولار أمريكي سنوياً. ويبلغ حجم إنفاقها السنوي على السلع الترفيهية ما يقرب من 12 مليار دولار. وفي زحمة ابتكار ''الجهادات''، لم ينتبه خامنئي إلى أن بوادر فشل ''جهاد الاكتفاء''، بدأت مع إطلاقه. فإذا كانت السلع الترفيهية غير الضرورية تمتص هذا القدر من العملات الصعبة، فلماذا لم يحم الـ12 مليار دولار مرة واحدة؟! أليس الأمر ''جهاداً'' أم أنه كغيره من ''الجهادات'' ليس سوى ''فقاعات'' تشبه تلك التي تتعلق بالمهدي التائه؟! وفي كل الأحوال، لن يقدم القرار الإيراني الجديد شيئاً في مجال ''الجهاد'' ضد العقوبات الغربية المتنوعة على البلاد. فإذا كانت هذه الخطوة ستوفر 4 مليارات دولار سنوياً، فإن خسائر إيران من العقوبات تصل إلى 5 مليارات دولار شهرياً.. وليس سنوياً.
والحقيقة، أن خامنئي لم يكن له الفضل في ابتكار ''جهاد الاكتفاء الذاتي''. فالفضل كله يعود إلى الخميني الذي أطلقه خلال الحرب العراقية-الإيرانية بين عامي 1980 و1988. الذي فعله ''مرشد'' الثورة، أنه أحياه رغم أنه لم يحقق شيئاً عملياً في التجربة الأولى له. وكل ما أنتجه هذا ''الجهاد'' في مرحلته الأولى (وسينتجه في مرحلته الجديدة)، أنه دفع بعمليات التهريب إلى مستويات عالية، بات حتى ''الجهاد'' ضدها مستحيل. فمن الآن، يمكن أن أنصح خامنئي بعدم إطلاق ''جهاد'' جديد يستهدف التهريب، في خضم إغراقه بلاده بكل أنواع ''الجهادات''.
لن تنفع كل الترقيعات الاقتصادية في إيران، مهما كان هول مسمياتها. فاقتصاد البلاد يسير بخطوات متسارعة ومرعبة نحو الانهيار. وما يملكه البنك المركزي اليوم، سيكون أقل غداً. وغداً يعني بالفعل اليوم التالي. والبلاد التي يتعاطى سكانها مع عملتها الوطنية كهم يومي، لا مكان لأي شكل من أشكال التهدئة الاقتصادية فيها. وفي ظل هذا المشهد البائس، تنمو بقوة إرادة شعبية ستوفر كل المعاول لجهاد شعبي وطني حقيقي، ستكون أولى ضحاياه، تلك ''الجهادات'' التي ستتطابق تماماً (في النهاية) مع الصرعات، بفقاعاتها وأزمنتها المحدودة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق