الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

"المركزيان السوري والإيراني".. الاستثمار في قطاع الهلاك

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الطغاة لا يؤسسون طغيانهم لحماية الثورة، إنهم يقومون بالثورة لتأسيس الطغيان"
جورج أورويل كاتب وأديب بريطاني



كتب: محمد كركوتــــي

بين المصرفين المركزيين الإيراني والسوري.. يا قلبي احزن، ليس على مصيرهما المتداعي بالطبع، ولكن على دورهما المركزي في تمويل الخراب والإرهاب والقتل، وتوظيف قُطاع الطرق، وتخصيص الميزانيات للاغتيالات والتفجيرات، ورصد "المكرمات" للعصابات المأجورة الخارجة عن القوانين البشرية، حيث يتصدر حزب الله اللبناني الطائفي الإيراني قائمة هذه العصابات، ولا بأس من تمويل "دولة" حماس "المستقلة"، التي وجدت أن المرأة الفلسطينية التي تدخن الشيشة، ليست سوى آلية من الآليات المعطلة لتحرير فلسطين! وعلى الرغم من أن هذه الأموال الداخلة في "قطاع الهلاك"، هي ببساطة مسروقة من الشعبين الإيراني والسوري، إلا أن السرقات الجانبية الكبرى لا تتوقف، خصوصاً من خزائن "المركزي السوري".

في مقابلة أجرتها معي مؤخراً قناة "العربية"، سألتني المذيعة عن العقوبات الأوروبية المزمعة على المصرف المركزي السوري، وأجبت : أن هذا المصرف ليس سورياً بالمعيار الوطني، وليس مركزياً بالمعيار الاقتصادي. هو مصرف تملكه عائلة واحدة، ملكت في طريقها سلطة غير شرعية، لكن لا تضير هذه الأسرة مشاركتها في "الغنائم" الوطنية، بعض الأشخاص المحدودين جداً من خارجها. وفي مقال سابق لي في "الاقتصادية" حول العقوبات الأميركية المزمعة على المصرف المركزي الإيراني، أشرت إلى أن هذا المصرف ليس إيرانياً بالمعيار الوطني، وعلى عكس "زميله" السوري لا تملكه أسرة، بل يملكه نظام يؤمن بأن "الثورة" الإيرانية لا تزال بضاعة قابلة للتصدير، رغم انتهاء صلاحيتها زمناً وأخلاقاً، مع ضرورة الإشارة إلى أدوات التصدير السافرة.

لن تكون العقوبات الأوروبية على "المركزي السوري"، بمثابة رد من الأوروبيين على كل من روسيا والصين، لاستخدامهما حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ضد قرار إدانة السلطة في سورية على جرائمها ضد شعبها، كما تحب هذه السلطة أن تروج. إنها عقوبات تأتي ضمن سلسلة من الإجراءات التدريجية التي قرر الأوروبيون اتخاذها. أما لماذا تدريجية؟ فلكي تكون أكثر استهدافاً للسلطة ورموزها وأعوانها، وأكثر ابتعاداً عن الشعب السوري. ولأن هذا المصرف ليس عاماً، فاستهدافه مشروع، لأنه يوفر منجماً مالياً غير شرعي، لسلطة غير شرعية. فبعد أن جفف الاتحاد الأوروبي ما أمكن له من مصادر تمويل السلطة في سورية، في سبع موجات من العقوبات، بات من الضروري فرض عقوبات على هذا المصرف، الذي تنقص ودائعه على مدار الساعة، ليس بسبب الإنفاق العام، بل لسد النقص في الأموال التي تصب في خزائن السلطة، خصوصاً مع تعاظم المخاوف لدى بشار الأسد، بأن الإمدادات المالية الإيرانية لا يمكن أن تستمر إلى ما نهاية، لأن إيران بنظامها المُصدِر للخراب في كل الأرجاء، تعيش ظروفاً اقتصادية أكثر من صعبة. وجاء على مصرفها المركزي "الدور يا دكتور".

وعلى هذا الأساس تشكل العقوبات على المصرف المركزي السوري، ضربة أخرى لسلطة الأسد، التي بدأت تعاني من شح السيولة لتمويل حرب الإبادة ضد شعبها. والحقيقة أن حاكم المصرف نفسه (ميالة)، حذر حتى قبل أن تقدم أوروبا على خطوتها هذه، بأن الاحتياطي النقدي في المصرف يتناقص. ورغم أنه تحدث عن وجود ما يقرب من 17 مليار دولار أميركي في خزائن هذا المصرف، إلا أن المعطيات الاقتصادية على الأرض، تفيد بأن الاحتياطي وصل إلى ما بين 12 و13 مليار دولار، الأمر الذي شغَل آلات الطباعة السورية الخاصة بالسلطة، لطباعة أوراق نقدية بلا رصيد أو سند أو غطاء، ترفض المؤسسات الخارجية قبولها.

ومع هروب أكثر من 23 مليار دولار أميركي في الأشهر الأربعة الأولى من الثورة السلمية الشعبية العارمة، ستكون العقوبات المزمعة على المصرف المركزي، بمثابة مسمار آخر في نعش الكيانات التي توفر الإمدادات المالية للأسد وأعوانه. وربما هذا ما يفسر تخبط السلطة في إصدار قرارات اقتصادية، لا سيما المرتبطة بالعمليات التجارية المستهلكة للقطع الأجنبي. فقد تراجعت خلال أسبوع واحد فقط، عن قرار يحظر استيراد ما يقرب من 25 في المائة من الواردات، وذلك خوفاً من نقمة التجار الذين لا يزالون يعتقدون بإمكانية نجاة الأسد وسلطته. والطريف، أن الأسد أوقف في العام 2005 عبر المصرف المركزي الصفقات التي كانت تتم بالدولار الأميركي والتحول إلى اليورو، كـ "عقاب" منه للولايات المتحدة الأميركية، على عقوباتها التي فرضتها عليه وعلى أعوانه في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. وبالتأكيد لم تتأثر الولايات المتحدة بهذا "العقاب" (ولم ينهر اقتصادها من جرائها)، الذي أحدث اضطرباً كبيراً في الأوساط التجارية السورية. ويمكنني أن أتوقع، أن الأسد "يهرش" رأسه الآن بحثاً عن عملة أخرى غير اليورو، كـ "عقاب" لأوروبا على عقوباتها، لاسيما بعدما فشل وزير خارجيته وليد المعلم، في إزالة القارة الأوروبية عن الخارطة. لاشك بأن العقوبات الأوروبية على "المركزي السوري"، ستكون قاصمة للسلطة على صعيد التمويل المالي، خصوصاً وأنها (أي السلطة) لم تنجح حتى الآن في إيجاد من يشتري النفط السوري المرفوض أوروبياً، الذي يوفر لها (وليس للشعب السوري) أكثر من 450 مليون دولار أميركي شهرياً.

إيران.. الممول المالي والإجرامي الوحيد حالياً لبشار الأسد، جاءها الدور في مصرفها المركزي. وسوف تسبب لها العقوبات الأميركية ومعها الأوروبية، مزيداً من العزلة المالية على الساحة الدولية، لأن بعض الشرق الذي لجأت إليه في تعاملاتها المالية والتجارية والاستثمارية، فشل في سد الفراغ الذي أحدثه كل الغرب. وكما قال الأديب والشاعر الأميركي رالف إيمرسون "المال يكلف كثيراً، فالتكاليف الإيرانية ستكون باهظة. صحيح أنه لا يزال أمام نظام الملالي في إيران متنفس اقتصادي شرقي، لكن الصحيح أيضاً، أن نسبة الكربون تتعاظم في تركيبة الهواء الآتي من الشرق. وتكفي الإشارة هنا، إلى أنه بمجرد الحديث عن فرض عقوبات أميركية على "المركزي الإيراني"، انخفضت قيمة الريال الإيراني أكثر من 13 في المائة.

لا شيء أفضل من زيادة العزلة المالية على سلطة بشار الأسد، ونظام خامنئي. سوف يستخدم الأسد هذه العقوبات لمواصلة حملته الفارغة، بأنها تستهدف الشعب السوري. والحقيقة أنها حملة أطلقها الأسد الأب، ولم يطورها الابن، ولذلك بقية مثيرة للسخرية. فالذي كان (ولايزال) يستهدف الشعب السوري، هو تحويل الممتلكات العامة، على مدى أربعة عقود، إلى غنائم خاصة جداً. ولا أعرف إن كان نظام الملالي سيرد على العقوبات الجديدة، بمزيد من الانتظار لوصول "المهدي المنتظر"، الذي قرر أحمدي نجاد، أنه سيحل مشاكل الأرض والكواكب وما بعدها!

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

كيف تُسرق سورية؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"الرجل الذي يكون أول الصارخين حرامي.. حرامي، غالباً ما يكون سارق الخزنة"
وليام كونجريف كاتب وأديب إنجليزي

 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
أتلقى رسائل الكترونية كثيرة، يطلب مرسلوها معرفة حجم الأموال التي نهبها سفاح سورية بشار الأسد وأسرته وأعوانه. المعلومات كثيرة، لكن الأدلة قليلة. فلم يحدث أن ترك الناهبون وراءهم وثائق عن سرقاتهم، خصوصاً عندما يكونون في السلطة، يتحكمون بالأختام ومفاتيح المصارف المركزية (وحتى الخاصة)، ومنابع الثروة. واللص (أياً كان) عندما يسرق، لا يترك لائحة بالمسروقات، والغنيمة المثالية له، هي تلك غير المسجلة. وتكون السرقة كاملة، عندما ينهب في طريقه السجلات والدفاتر، أي أنه يسرق المال ويمحي آثاره. ومع التضييق العالمي على الناهبين الكبار، بات الهم الأول لهؤلاء، إيجاد ملاذات آمنة لأموال شعوب، نصفها يعيش في ساحة ما دون الفقر، والغالبية الأخرى من هذه الشعوب، تحيا في الفقر نفسه، بلا صوت صادر عنها، لأن فداحة الآلام تخفي أبسط الكلمات.

التقديرات تتحدث عن ثروة للأسد وأسرته تتراوح ما بين 30 و40 مليار دولار. وحرصاً على النزاهة في الطرح، فهذه الأرقام الفلكية في بلد كسورية، اتفقت حولها جهات معارضة للسلطة، مع بعض المؤسسات التي لا يربطها بسورية ولاء أو معارضة. ويرى البعض أن هذه الأموال هي أقل مما قد تكون الأسرة، قد جمعته على مدى أكثر من أربعة عقود. مستندين في ذلك إلى أن محمد مخلوف خال الأسد الابن، تمكن من تكديس ما بين 12 و15 مليار دولار. فإذا كان الخال لوحده اقتنص هذا الكم الهائل من الأموال، فهل تكون أموال "القائد"، إلا ضعف أو ربما أضعاف هذه المبالغ؟ دون الحديث عن أموال الشقيق ماهر، والصهر آصف شوكت والأعمام وأبنائهم. ولمن نسي، فقد تمكن رفعت شقيق الأسد الأب (بطل مجازر حماة وحلب وتدمر) في منتصف ثمانينات القرن الماضي، من حمل أكثر من 3 مليارات دولار أميركي إلى الخارج (ربما كمكافأة نهاية الخدمة!)، عندما كانت سورية تعيش "اقتصاد التفقير". فكيف الحال الآن؟

عمليات النهب التي يتعرض لها اقتصاد ومقدرات السوريين، لم تبدأ بوصول بشار الأسد إلى السلطة، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة عما كانت عليه في عهد الأسد الأب، مع إبقائها على الجانب النفطي، كمصدر ثابت ومضمون للأموال التي تدخل مباشرة في خزائن السلطة لا الدولة (العوائد النفطية تصل إلى 6 مليارات دولار سنوياً). ففي عهد الأب كان الاقتصاد مغلقاً، وكانت السرقات تتم (بالإضافة إلى النفط)، عن طريق العمولات (خصوصاً تلك المرتبطة بشراء الأسلحة)، وعمليات التهريب بكل أشكالها، بما في ذلك المخدرات، واستبدال الاحتياطي من العملات الصعبة بكميات مريعة من أوراق النقد السورية المطبوعة في دمشق بدون سند أو رصيد أو غطاء، الأمر الذي أوصل قيمة الليرة إلى ما دون الحضيض. يضاف إلى ذلك، العوائد المالية الضخمة الناجمة على أعمال 17 ميناء غير شرعي (لاسيما في منطقة اللاذقية)، كان يسيطر عليها أشقاء الأسد الأب وأبنائهم. ولأن الاستيراد كان ممنوعاً على مدى أكثر من 17 سنة، فقد "استثمر" الناهبون في المنع! ليستوردوا كل شيء بدون أن يدفعوا قرشاً واحداً للخزينة العامة. وحالهم كان كحال زعيم المافيا الشهير آل كابون، الذي قال في إحدى المرات مستغرباً "كيف يمكن أن أدفع الضرائب والرسوم على أعمال غير شرعية"؟!

في عهد الأسد الابن، كبر من كانوا صغاراً من أبناء الناهبين، ليبتكرو أشكالاً أخرى لأعمال السرقة، تتناسب وتوجه الاقتصاد نحو الانفتاح. والحقيقة أن هذا الاقتصاد لم يكن منفتحاً، إلا على عدد محدود جداً من الأشخاص غالبيتهم من أفراد الأسرة الحاكمة-المالكة، ولا بأس بعدد آخر من الأعوان. ولأنه أصبح للاقتصاد السوري وجه آخر، فقد تحددت مستويات النهب طبقاً لقرابة الشخص من قمة هرم السلطة وولائه لها. فكلما كان قريباً ومقرباً، كلما كانت حصته من الأموال المسروقة كبيرة. وكانت "القطاعات" المولدة لهذه الأموال واسعة ومتعددة ومتشعبة، من عمولات على مشاريع تتعلق بالبنى التحتية، إلى مشاركات قسرية للتجار ورجال الأعمال التقليديين الذين سُمح لهم بمواصلة العمل، مروراً باستثمارات وهمية، وسرقة ما يقرب من 50 في المائة من رواتب السوريين، من خلال تخفيضات غير قانونية في سعر صرف الليرة، لم تفرضها أية حاجة تطويرية أو اضطرارية، وطبعاً هناك الأموال الضخمة الناجمة عن خصخصة عدد من المؤسسات، وإقامة مؤسسات جديدة (مثل الاتصالات) لم يُسمح لغير أفراد الأسرة الاقتراب منها، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة على المؤسسات الانتاجية العامة. ولم يكن الشعب السوري وحيداً في استهداف مقدراته، فقد نال "رجال الأعمال" المُعينين من أموال مستثمرين عرب وأجانب، في عمليات احتيال كبرى، الأمر الذي دفع العديد من المستثمرين الآخرين، إلى التراجع عن أية خطوة باتجاه الاستثمار في البلاد.

هذه الأشكال الجديدة –المتجددة للسرقات، إلى جانب بعض ما تبقى من الأشكال القديمة، ولدت أموالاً هائلة، يمكن أن توفر حياة كريمة طبيعية للشعب السوري، الذي يعيش أكثر من 30 في المائة منه تحت خط الفقر، ويعج في بطالة ترهب أكبر الدول اقتصاداً وثروة. ولم يكتف الناهبون بذلك، فهم يقومون بتهريب الأموال أولاً بأول إلى خارج البلاد، ويخزنوها في ملاذات آمنة، يصعب الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، هرب رامي مخلوف ابن خال الأسد الذي يسيطر عملياً على ما بين 60 و65 في المائة من اقتصاد البلاد، أكثر من 8 مليارات دولار أميركي في غضون خمس سنوات فقط، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية "رجال أعمال" الأسرة، الذي هربوا أمولاً متفاوتة القيمة، كل حسب مرتبته وسرقاته. وعلى الرغم من توقف الأسد منذ سنوات عن إيداع الأموال المنهوبة في المصارف السويسرية، خوفاً من الملاحقة والعقوبات، فقد اكتشف المصرفيون السويسريون أرصدة له بلغت 2,5 مليار دولار أميركي، في حين يقول هؤلاء: إن هذه الأموال هي فقط أرصدة مالية تديرها البنوك السويسرية، ولا تشمل أي أسهم قد يملكها الأسد في سويسرا!

لم تهرب الأموال المنهوبة من سورية بعد اندلاع الثورة الشعبية السلمية العارمة، فهذه الأموال تخرج من البلاد فور انتهاء موسم حصادها! لتُزرع في أماكن أخرى تفيد الناهبين. فلم يحدث أن أفادت أموال منهوبة.. المنهوبين.



الأحد، 2 أكتوبر 2011

من كم سنة ميالة ميال

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"لا طاغية ولا محتل، يمكنه اعتقال أمة بأكملها بقوة السلاح إلى الأبد"
مايكل ستازينكي كاتب أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
لست ممن يفضلون الرد على الأكاذيب (أياً كانت)، ليس لعدم توفر ما يدحضها أو ما يدحرها، بل لأنها دائماً تحمل في متنها وعلى مسرحها ما يفندها ويعريها من جلدها، لأن للأكاذيب في كل الأحيان ثوباً وهمياً لا يستر، مهما بلغت "عفة" الحملات لتسويقها. وإذا كانت نصف الحقيقة هي أكثر الأكاذيب جُبناً، فكيف الحال بالأكاذيب المطلقة؟! ونحن نعلم أن كذبة واحدة فقط، تدمر كل النزاهة (إن وجدت)، كيف سيكون الأمر، إذا كان الكاذب يحيا من إمدادات أكاذيبه؟! كما أنني لست من أولئك الذين يستعذبون الأغنيات الحديثة، لعدم تجاوبها معي شعراً ولحناً.. وغالباً صوتاً، غير أن هذا لم يمنعني من استعارة اسم إحدى أغنيات عمرو دياب، عنواناً لهذا المقال، طالما أن الحديث يتناول في جانبه الأهم "حاكم" المصرف المركزي السوري أديب ميالة، الذي أثبت قدرة هائلة على مَيلٍ تاريخي لسفاح سورية بشار الأسد. وإذا كان المغني دياب يستحق اعتذراً على تصرفي في عنوان أغنيته، فإن للشعب السوري الحق في جلب ميالة إلى المحاكمة، حتى ولو قدم اعتذارات، توازي حجماً المعلومات المضللة التي يطلقها، رغم حقيقة أن ميالة ليس سوى حاكماً ورقياً للمصرف، الذي ملكه الأسد الأب والابن منذ أكثر من 41 سنة.

سأخرج هذه المرة عما ألفت، لاعتقادي بأنه لا يزال هناك من يُصدِق غير المُصَدَق. يسعى ميالة (كما قال)، إلى توفير 6 مليارات دولار أميركي، من خلال القرار الذي فاجأ حتى أعوان السلطة من قُطاع الطرق والتجار، بوقف استيراد ما يقرب من 25 في المائة من الواردات التي وصفت بالكمالية، وذلك كـ "رد على العقوبات الأميركية والأوروبية". ماذا يقول "حاكم" المصرف المركزي؟ "إن هذا القرار جاء بفعل عقوبات تطال مباشرة الشعب السوري". لم يأت الرد على هذا الكلام من متآمرين أو مندسين أو مسلحين، جاء من أكثر الجهات موالاة لبشار الأسد. فبعد أن استكمل ميالة تحليلاته الوهمية مباشرة، خرجت غرفة صناعة حلب ببيان، تناشد فيه الحكومة إعادة النظر بقرار تعليق الاستيراد، لماذا؟ (أنقل جانباً من نص البيان) لأن القرار "يسبب ضرراً بالغاً لمعظم الفعاليات الاقتصادية الصناعية والتجارية والتي تعيش ظروفاً اقتصادية صعبة جداً، وتحاول جاهدةً تجاوز آثار العقوبات الاقتصادية، وهي حتماً غير قادرة على تحمل المزيد من الخسائر والعراقيل، في تأمين مستلزمات انتاجها بالكلف المقبولة وبالسرعة الكلية، لكي تتمكن من الاستمرار والحفاظ على عمالتها وتأمين الأمن المعيشي والاجتماعي للوطن".

لا نتوقع أن يقول "حاكم" المصرف المركزي السوري الحقيقة، فهو ميال إلى درجة متطرفة لسلطة آيلة إلى السقوط حتماً. والحقيقة أن الـ 6 مليارات دولار التي يسعى لها من خلال حظر عدد كبير من الواردات، هي جزء من أموال تنهب من المصرف المركزي منذ عقود، وارتفعت وتيرة النهب في أعقاب الثورة الشعبية السلمية العارمة التي تجتاح البلاد. وتكفي الإشارة هنا إلى تقرير لمجلة "الإيكونومسيت" البريطانية الرصينة، الذي أكد هروب ما يزيد عن 23 مليار دولار من البلاد في غضون أربعة أشهر فقط. كما أن العقوبات الأميركية والأوروبية، لم تستهدف الشعب السوري، لأنها تركزت في القطاع النفطي الذي تدخل عوائده مباشرة في خزائن الأسد وأسرته، ولا بأس من بعض أعوانه، ونالت من شخصيات محددة في السلطة (في مقدمتها بشار الأسد)، تستحوذ تاريخياً على مقدرات الاقتصاد السوري. والعملات الصعبة التي يسعى ميالة إلى توفيرها، هي جزء من الخسائر التي منيت بها السلطة (وليس سورية) من جراء العقوبات المشار إليها. فالأسد يخشى من تراجع حجم الإمدادات المالية الإيرانية له، وإن كان مطمئناً من عدم تراجع إمدادات طهران الإجرامية، التي تصل سوريا على شكل مرتزقة وأسلحة مخصصة لقتل المدنيين وقمع المظاهرات، فضلاً عن تلك التي تصل للأسد من حزب الله الإيراني في لبنان.

والحقيقة أن إيران التي تعاني من أزمات اقتصادية داخلية جمة، قد تواجه مصاعب في توفير الدعم المالي للأسد إلى ما نهاية، خصوصاً وأن الثورة السورية ستتواصل إلى أن تحقق أهدافها في إسقاط الأسد وعائلته الحاكمة. كما أن هذه الثورة قلصت أعداد الإيرانيين الذين "يحجون" إلى سورية وينشئون "الحسينيات الاستثمارية" هناك. وكان هؤلاء يوفرون دخلاً جيداً من العملات الصعبة للسلطة. وحرصاً من نظام الملالي الإيراني على استمرار التفقد المالي للأسد، فقد مارست طهران ضغوطاً كبيرة على الحكومة العراقية الموالية لها، لتصدير قسم من النفط العراقي عبر الأراضي السورية. فالدخل الناجم عن عمليات التصدير، سيسد جزءاً من الدخل الذي كان يصب في خزائن السلطة من جراء بيع النفط لأوروبا، لاسيما وأن الأسد أبثت –حتى الآن- أنه مسوق فاشل للنفط المرفوض أوروبياً، تماماً كما هو حاكم فاشل بلا شرعية. ولم تنفع – الآن على الأقل- محاولات أعوان الأسد وفي مقدمتهم ابن خاله رامي مخلوف، لإنشاء شركات ومؤسسات وهمية تلتف على العقوبات الأوروبية والأميركية. وباستثناء حكومتي لبنان والعراق في الجوار، وحكومتي روسيا والصين، ومعهما بالطبع النظام الإيراني، فإن الحصار الاقتصادي يأخذ كل يوم شكل حبل يطوق رقبة الأسد. دون أن ننسى أن إيران هي نفسها تخضع لعقوبات دولية مختلفة، وتخضع مؤسسات لبنانية (لاسيما المصرفية منها) لعقوبات مماثلة.

مرة أخرى.. إن قرار وقف استيراد المواد والبضائع التي سُميت بالكمالية، لا يهدف إلى حماية الاحتياطي من العملات الصعبة في سورية، و "حاكم" المصرف المركزي كُلف في الواقع من قبل الأسد، لتوفير ما أمكن من هذه العملات، لسد مساحة من الفجوة التي أحدثتها العقوبات. ولو كان الأمر يرتبط بالفعل بحماية الاحتياطي وبالتالي حماية قيمة الليرة السورية، لما أشرف هو نفسه (ولايزال) على طباعة العملة السورية بدون سند أو رصيد، إلى درجة دفعت المؤسسات الخارجية إلى رفض قبول الأوراق النقدية من فئتي الألف والـ 500 ليرة، المطبوعة في مطابع السلطة.

ولمن نسي، كان حافظ الأسد، متخصصاً على مدى سنوات طويلة في منع استيراد البضائع من خارج سورية، لأن السرقات الكبرى التي حدثت في عهده التهمت كل احتياطي البلاد من القطع الأجنبي. وماذا فعل أيضاً؟ أدخل البلاد كلها في دائرة التهريب الفظيعة. فكان القائمون على عمليات التهريب (وكلهم من السلطة)، يهربون كل شيء، من السيارات والمعدات الثقيلة والأجهزة الإلكترونية، إلى مناديل "الكلينكس" والسجائر.. وحتى الموز والفراولة! وكانت السلعة المهربة تدل على مكانة المهرب (ومنصبه) في السلطة نفسها. ولأن التاريخ يعيد نفسه، فإن المهربين الذين يشتغلون الآن كـ "شبيحة" ( والأفضل وصفهم بقُطاع الطرق)، يمارسون اليوم مهنتان، الأولى: قتل المدنيين العزل وسحلهم والتمثيل بهم وتقطيع أوصالهم، والثانية: تدمير ما تبقى من اقتصاد البلاد. إن وجد لهذا الاقتصاد بقية.