الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

إنها قضية أخلاق لا مسألة قضاء!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")










" الغد هو متعة اللصوص"
ريكس هاريسون ممثل بريطاني





محمد كركوتـي

يبدو أن القطاع المالي السويسري، لم يعد يستطيع الصمود أمام الضغوط الدولية، الهادفة إلى جعله أكثر وضوحاً شفافية ونزاهة.. بل وواقعية، فيما يرتبط بالحسابات السرية ( الملوثة والمشبوهة) التي تعم المصارف السويسرية منذ عشرات السنين. فضغوط الأزمة الاقتصادية العالمية، رفعت من زخم ضغوط الحكومات – لاسيما في الدول الكبرى- على هذه المصارف، بحثاً عن ضرائب مستحقة على مليونيرات ومليارديرات من كل الجنسيات، إلى جانب البحث عن أموال سرقها حكام سابقون (وآخرون لا يزالون في السلطة) في البلدان الفقيرة، علها تخفف من حدة الضغط على الموازنات التي تخصصها الدول المانحة للدول الفقيرة الممنوحة، علماً بأن هذه الموازنات تعرضت إلى تقليص خطير، في العامين الماضيين، بحجة أن الأزمة قضمت مداخيل المانحين، الذين وجهوا ما تبقى من أموال لديهم، لإنقاذ المؤسسات والمصارف التي غرقت في بركان الأزمة.
.
لقد حارب النظام المالي السويسري، في فترة "الهياج" الحكومي العالمي ضده، كل المحاولات للكشف عن الأرصدة المشبوهة، بما في ذلك تلك التي تعاظمت وأضحت كالجبال ( إلى درجة أنها لم تعد سرية)، من جراء عمليات غسيل الأموال، والتهرب من الضرائب، والصفقات التجارية المشينة، وعقود الأسلحة المريبة، والاتجار بالبشر، وسرقة الأموال العامة. ومن فرط ضخامة حجم هذه الأموال، صارت جزءاً لا يتجزأ من النظام المالي العالمي، بحيث دفعت العديد من المصرفيين "التائبين" إلى الإقرار، بأن أموال المخدرات، سندت مؤسسات ومصارف عالمية، في أعقاب اندلاع الأزمة العالمية!. وهذا يعني أن نظام الظل المالي أو Global shadow financial system تداخل في فترة من الفترات (وربما لا يزال يتداخل) مع النظام المالي الشرعي العالمي أوGlobal legitimate financial system . ولأن الحكومة السويسرية وقفت مع القائمين على القطاع المصرفي في البلاد، في وجه الضغوط الدولية عليهم، كان المسؤولون فيها من الوقاحة، بحيث هددوا قبل عام تقريباً، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المعروفة اختصاراً بـ OECD ، بالامتناع عن دفع الصحة السويسرية في ميزانية المنظمة، لماذا؟ لأن هذه الأخيرة، أعلنت في أحد تقاريرها بأن سويسرا لم تلتزم بالشفافية المصرفية، التي يسعى العالم إلى وضعها، تمهيداً لتكريسها. فقد أثبت المسؤولون السويسريون – دون أن يقصدوا – أن بلادهم النظيفة، تعيش على حصة من الأموال القذرة!. ولا أزال أتذكر، قرار محكمة الجنايات الفيدرالية السويسرية برفض تسليم 6 ملايين دولار أميركي من ودائع رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حاليا) الراحل موبوتو سيسي سيكو، لدى بنوك سويسرا إلى حكومة بلاده. فقد وجدت هذه المحكمة، أن شعب الكونغو، لا يستحق استعادة أمواله المسروقة!.
لكن الأوقات تتغير، وتفرض معاييرها ومعطياتها، بصرف النظر إذا ما كانت مُرْضية أو مبغضة. حلوة أو قبيحة. مقبولة أو مرفوضة. ومع "تدافع" دول العالم للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، تزداد الضغوط للكشف عن الأرصدة المشينة أو المشبوهة، بل وتشع ذاكرة حكومات هذه الدول، لتتذكر ما كان نسياً منسياً!. أمام هذا الواقع، أقدمت سويسرا على خطوة هامة وجيدة.. لكنها متواضعة. فقد صدَق نواب البرلمان فيها، على قانون يجعل من السهل على السلطات الفيدرالية، مصادرة الأموال التي سرقها وخبأها حكام دكتاتوريون في حسابات لهم ولأسرهم ولأعوانهم في مصارف سويسرية. وحسب القانون، رُفعت المدة التي يمكن خلالها تجميد الأرصدة المشبوهة من 5 إلى 10 سنوات. ولعل الفقرة الأهم من هذا القانون الذي صدر بعض مخاض عسير، هي تلك التي تشترط استخدام الأموال المُستعادة، لتحسين ظروف معيشة الشعوب التي سُرقت منها، ولتعزيز سلطة القانون ومكافحة عمليات ومخططات الإفلات من العقاب والمحاسبة.
مرة أخرى، إنها خطوة جيدة لكنها لا تزال دون المستوى المطلوب. وتبدو في الواقع أنها جاءت، لتخفيف " الهياج" العالمي على سويسرا، أكثر من كونها وجدت من أجل تصحيح ما كان يجب أن يُصحح منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما انتشرت في هذا العالم، حكومات فاسدة ومارقة، هي أقرب إلى العصابات منها إلى نظم حكم، في دول حديثة الاستقلال، تحولت في الواقع من دول حرة من الاستعمار الأجنبي، إلى دول أسيرة استعمار محلي!. ومن قصور القانون السويسري الجديد، أنه وضع حداً زمنياً لتجميد الأرصدة المشبوهة. فإذا كان المشرعون يريدون حقاً تحقيق أهداف إنسانية وسامية من جراء قانونهم هذا، ويسعون إلى إعادة الأموال إلى أصحابها الحقيقيين، عليهم أن يفتحوا هذه المدة، أو ربطها بزوال الاشتباه في هذه الأرصدة. ومع ذلك، فإن الخطوة، يمكن التأسيس عليها، خصوصاً في أعقاب اعتزام دولة كبريطانيا، وقف مساعداتها لدول تحكمها أنظمة فاسدة، وفي ظل تعالي الأصوات المنادية بضرورة ربط المساعدات للدول الفقيرة بالتنمية فيها، واستثمار أفضل لثرواتها الطبيعية. فما كان مباح قبل الأزمة العالمية، لم يعد كذلك بعدها، و"شرفاء" الأنظمة الفاسدة قبلها، أصبحوا بمعايير الدول المناحة مجرد لصوص بعدها!.
سيحصل شعب هاييتي بعد القانون السويسري (على سبيل المثال)، على 7 ملايين دولار أميركي فقط، من أموال سرقها الحاكم السابق للبلاد جان كلود دوفالييه المعروف بـ"بيبي دوك". ولكن هل هذا حقاً ما سرقه هذا الديكتاتور الرهيب؟. وماذا عن ما سرقه روبرت موغابي رئيس زيمبابوي الحالي، وما نهبه تشارلز تيلور رئيس ليبيريا السابق، وغيرهما من الطغاة في الدول الفقيرة؟!. هل يتمتع هؤلاء بأرصدة غير مشبوهة؟. وهل يحتاج الكشف عنها، إلى قدرات خارقة من البحث والتقصي؟. أسئلة كثيرة، تحتاج لإجابات واضحة عليها، هذه المرة ليس من قبل المسؤولين السويسريين، بل من جانب القائمين على القطاع المالي في البلاد، ومن مسؤولي خزائن المصارف المليئة بالأموال المشينة.
إن الطريقة المثلى لإعادة ما نهب من الشعوب الفقيرة، ليس اللجوء إلى المحاكم، بل إلى التحقيقات النزيهة، وهذا أمر في غالية السهولة. فعلى مدى أربعة عقود من الزمن، قضت المحاكم السويسرية بإعادة ما يقرب من ملياري دولار أميركي إلى حكومات أفريقية وآسيوية وأميركية لاتينية، ولكن بعد صراع طويل مع القضاء، لإثبات أن هذه الأموال من مصادر غير مشروعة. وفي المقابل، وفي الفترة نفسها، خرج من القارة الأفريقية لوحدها أكثر من 1,8 تريليون دولار بصورة غير مشروعة، صبت أغلبية هذه الأموال في المصارف السويسرية، أو تلك التي ترتبط بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا يعني أن المحاكم، لم تحقق الحد الأدنى من العدالة، فيما يرتبط بالأموال المسروقة من الشعوب الفقيرة!. وعلى هذا الأساس، لا ينفع القضاء في مثل هذه الحالات. الذي ينفع حقاً، قرارات سياسية واضحة وحاسمة، وهذه لا تعيد فقط الحق المسلوب إلى أصحابه، بل تُسرع عملية إعادة الأموال، في الوقت الذي تحتاج فيه الدول الفقيرة، كل دولار "ممكن"، قبل الأزمة العالمية وبعدها، وقبل الخطوة السويسرية المتواضعة وبعدها. فالطغاة اللصوص لم يسرقوا أفراداً، بل نهبوا أمماً. والقضاء الذي ينفع في قضايا فردية، ليس سوى مضيعة للوقت في الحالات العامة.
إنها قضية أخلاق، لا مسألة قضاء. وهي مسؤولية أكبر بكثير من أن تُترك لحكومة سويسرية، لا تفرق بين لص سرق من متجر، وآخر سرقة أُمة بأكملها!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق