الثلاثاء، 7 سبتمبر 2010

"المستثمر الذكي" في عالم فقد الذكاء

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








" نحن نعيش قلق ماذا سيكون طفلنا في المستقبل، لكننا ننسى وجوده الآن "
ستيسيا تاوشر كاتبة ومربية أميركية

 
 
 
محمد كركوتــي
 
في زحمة التعاطي مع القضايا العالمية الصعبة، ومراقبة ومتابعة تفاصيلها وشجونها. وفي خضم الاهتمام بأحداث اقتصادية وسياسية عالمية، تركت (وتترك الكثير) من التبعات ورائها، ما لا يطيق العالم تحمله، بل وما لا يقدر عليه. لم أستطع تجاهل الخطوة التي أقدمت عليها هيئة السوق المالية السعودية، بإصدارها مجلة " المستثمر الذكي"، الموجهة إلى الأطفال، لا الكبار. ولو استرجعنا الأحداث التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية، لوجدنا أن غالبية المستثمرين الكبار، لم يكونوا أذكياء بما يكفي، لكي يحصنوا أنفسهم وأموالهم، بل وحتى أسرهم، من فوضى الاقتصاد العالمي، ومن وهم الأرباح، ومن هشاشة الفقاعة الاستثمارية. كان الجشع سيد الحراك الاقتصادي، وكان التسيب جزءاً أصيلاً من هذا الحراك. ولا أزال أتذكر رسماً كاريكاتيرياً (نشرته في كتابي الأخير عن الأزمة الاقتصادية، الذي صدر هذا العام بعنوان " زوبعة خارج الفنجان") للفنان اللبناني – السويسري باتريك تشاباتي، صَور فيه مسؤول في جائزة نوبل، يعلن عن فوز امرأة بالجائزة في مجال الاقتصاد، لأنها احتفظت بأموالها في منزلها!. فقد أراد أن يؤكد (في أعقاب الأزمة) بسخرية، على أن "الاقتصادي الذكي" هو ذاك الذي لم يتورط في اقتصاد عالمي ورقي ووهمي، بل ومريب.

وعلى الرغم من أن الحراك الاقتصادي العالمي، لم يكن بمعزل عن الانتقادات الحكيمة، والتنبيهات الواقعية، بل والتحذيرات الصادقة، إلا أن الغالبية العظمى من الذين استثمروا أموالهم وأموال غيرهم، وأولئك الذين استثمروا ما لا يملكون، لم يسمعوا تلك الانتقادات والتنبيهات والتحذيرات، بل كان بعضهم يسخر منها من مُطلقيها، ويصفهم بأنهم ليسوا سوى مجموعة من الهدامين المتشائمين، الذين لا يريدون للحراك الاستمرار والازدهار والنمو!. وهذا يعني، أنه لو صدرت مئات المطبوعات للتوعية الاستثمارية، بُغية تكوين "مستثمر ذكي كبير"، لما انتفع بها الذين وقعوا في براثن الأزمة. فالجهل (مع الجشع والوهم)، لم ينتج إلا مستثمرين غافلين، غارقين، إلى درجة أن أقر 22 في المائة من الأهالي البريطانيين، أواخر العام الماضي في استطلاع أجرته شركة التأمين "إنغيج مويتشوال"، وشمل ثلاثة آلاف والد ووالدة، أنهم اقترضوا من مَن؟ من حصالات أبنائهم، لدفع فواتير أو تسديد نفقات غير متوقعة، أو دفع مصاريف رحلة عائلية. وأقر هؤلاء أيضاً، بأنهم أحسوا بالذنب من جراء لجوئهم إلى الأموال التي وفرها الأبناء.

الأوقات تتغير.. وما كان لا ينفع قبل دخول الدول العربية ( وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية)، عصر الأسواق والتحرر الاقتصادي، وارتباط الاقتصادات ( لاسيما الكبيرة منها) بالحراك الاقتصادي العالمي.. ينفع الآن. وحصالات الأطفال التي كانت تُفتح في أي لحظة، يمكن أن تخضع لمعايير "الاستثمار الذكي". لا أحد يطالب الأهالي، بعدم اللجوء إلى حصالات أبنائهم في أوقات المحن، ولكن استخدام موارد هذه الحصالات، ينبغي أن يخضع لآليات الاستثمار البسيطة، ليس من أجل ضمان إعادة هذه الأموال، بل من أجل تثقيف الأطفال أصحاب الحصالات، في مجال الاستثمار والإنفاق والتدبر المالي. وهذا من أهم المعايير التي تسعى مجلة " المستثمر الذكي" إلى تكريسها، إلى جانب العديد من القضايا الأخرى، التي تضع غير البالغين، في دائرة التدبير المعيشي – الاستثماري. وعندما تقف هيئة الأوراق المالية وراء هذه المطبوعة التعليمية – الإرشادية- التثقيفية، تكتسب مادتها، كثيراً من المصداقية والعمق والفائدة. فهذه الهيئة ليست داراً للنشر، بل مؤسسة تسعى لتوعية الأجيال التي ستتسيد الساحة الاقتصادية – الاستثمارية في المستقبل، من خلال التجارب الذاتية – المحلية الجيدة وغير الجيدة، ومن خلال التجارب الخارجية التي فُرضت عليها، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تسود معاييرها العالم على نطاق واسع، لم يسبق له مثيل.

إن الطفل يستطيع توجيه أسئلة، يصعب على الرجل الحكيم الإجابة عليها. ويقول الكاتب الأميركي نيل بوستمان : " إن الأطفال هم رسائل حية نرسلها إلى زمن، لن نكون موجودين فيه". وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون رسائل ذات معنى وأهمية، وقدرة على التعاطي مع أزمنة المحن وأوقات الازدهار، بصورة مستدامة لا فقاعية، وبشكل مرتب لا فوضوي، وبهيئة مُدركة لا جاهلة. والطفل الذي يفهم الاستثمار تدريجياً، بإمكانه تفادي الثغرات المتوقعة دائماً في الحراك الاقتصادي المحلي والعالمي، عندما يصبح القرار في يده، وبإمكانه أيضاً، أن يَصيغ "حياته الاستثمارية"، وفق ما هو موجود لا ما هو وهمي. ومجلة " المستثمر الذكي"، توفر له آلية فريدة من نوعها، ليس فقط في المملكة بل في العالم العربي ككل. وخلال عملي الصحافي الطويل في لندن، وبحثي عن مطبوعات أجنبية مخصصة للمستثمر الصغير، لم أعثر إلا على مجموعة من الكتب الموجهة إلى "المستثمر المراهق" أو Teenage Investor ، ومجموعة من المدونات الجديدة في هذا المجال، وبعض الموضوعات الموسمية في عدد من الصحف والمجلات. أي لم تقع في يدي أو عبر الإنترنت، دوريات متخصصة تتوجه إلى الأطفال أو المراهقين في مجال الاستثمار. وهذا يعطي "المستثمر الذكي" مزيداً من التميز، خصوصاً عندما تكون الجودة عنصراً أساسياً في هذه المطبوعة. وإذا كانت عجائب الدنيا سبع عندما نحن الكبار، فهي سبع ملايين في عيون الصغار!. وعلى هذا الأساس، فإن مهمة أي مطبوعة أو وسيلة إعلامية (موجهة لـ "المستثمر الصغير الذكي")، لا تنحصر فقط التوجيه والتوعية والتثقيف، بل في تقليل هذه العجائب عنده، ووضعه ضمن نطاق الواقع المجرد.

ولا شك في أن مجلة " المستثمر الذكي" تعي هذه الحقيقة، وقد بدا هذا واضحاً، من أعدادها الأولى التي صدرت. فقد قدمت نموذجاً في الوصول إلى الأطفال، يكفل لها مواصلة مهمتها، بل لنقل رسالتها، في عالم لم يفهم فيه الكبار، الرسائل الحكيمة التي وُجهت إليهم على مدى سنوات سبقت أزمة اقتصادية، بدت أمامها الأزمات السابقة، كرحلات استجمام.

إن بناء ذهنية بشرية بعيدة عن الأوبئة الاقتصادية التي أصابت العالم، لا يوفر تحصيناً مطلوباً لدى الصغار فقط، بل يمنح المستقبل الاقتصادي حكمة مكتسبة، خصوصاً عندما ينضم هؤلاء الصغار إلى الكبار، وينخرطوا حراك اقتصادي، لم يعد محصوراً في نطاقهم المحلي، بل هو حراك عالمي مفتوح على بعضه البعض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق