الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

صندوق النقد الدولي.. ليس "حصالة" أوروبية!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")











" أن تبقى خارجاً أسهل من أن تنجح في الدخول "
مارك توين أديب أميركي

 
 
محمد كركوتــي
 
بصرف النظر عن الملاحظات التي قد توجه لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، في عدد من القضايا العالمية، إلا أنها تمكنت في أقل ما عامين على وجودها في البيت الأبيض، أن تستحوذ على قسط من الحكمة، التي كانت دائماً (في الغرب) من نصيب الدول الأوروبية، لاسيما الكبرى منها. ففي غضون الفترة القصيرة التي مرت على هذه الإدارة، ظهر بوضوح اهتزاز "الرصانة" الأوروبية، التي كانت في السابق (في ظل وجود بعض الإدارات الأميركية المضطربة والمهزوزة وحتى الجاهلة)، بمثابة صمام أمان، في "مصنع" صنع القرار العالمي، وشكلت هذه الرصانة، ملاذاً للمتضررين من القرار الأميركي الذي يخص الحراك العالمي.

كان الأوروبيون يلجمون الجموح الأميركي متى استطاعوا، وكانوا يُصوبون الأخطاء، متى سنحت لهم الفرص. وفي الوقت الذي سنحت لهم فرصاً لتناغم واقعي مع الأميركيين، بوجود إدارة آمنت بضرورة إتباع سياسة "الإشراك"، لعب الأوروبيون – في بعض الحالات – الدور الأميركي غير الراشد، مع إدارة أميركية أكثر رشداً من غالبية سابقاتها!. وقد تجلت هذه الحالة بوضوح، من خلال البحث عن حلول ناجعة للأزمة الاقتصادية العالمية، بما في ذلك إقرار إصلاح اقتصادي عالمي. فقد اختلف الأوروبيون مع الأميركيين في طبيعة الحرب على الملاذات الضريبية الآمنة، والتزموا بحرب أقل هجومية. واختلفوا أيضاً في مسألة فرض ضرائب على العمليات المصرفية، وفضلوا أن لا تكون قوية. واختلفوا أيضاً وأيضاً، في لجم مكافآت ورواتب رؤساء المصارف، واستحسنوا أن تكون عملية الـ " لجم" هادئة ومتهاونة، واختلفوا في النمو الاقتصادي، فأرادوا تقشفاً لم يُقنع الأميركيين.

وقد أحب الأوروبيون الإبقاء على ما أمكن من قوة التجمعات التي تضم الدول التقليدية الكبرى، بينما فضَل الأميركيون تدعيم قوة مجموعة العشرين التي اتخذت زمام المبادرة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وبدا واضحاً، أن بعض قادة أوروبا يرغبون بالتمسك أطول زمن ممكن، بالمعايير التي قام عليها الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بينما وجدت إدارة أوباما، أن الوقت قد حان لإدخال إصلاحات عليها، علماً بأنها لم تعد تصلح لعالم ما بعد الأزمة، مهما كانت عمليات " التجميل" مُتقنة. ولو قمنا باستعراض طبيعة العلاقات الأميركية – الأوروبية منذ وصول إدارة أوباما إلى السلطة، نجد أنها تبتعد بمقدار اقتراب العلاقات الأميركية مع بقية دول العالم، خصوصاً مع منطقة شرق آسيا. ويبدو أن العالم يحتاج إلى جانب الإدارة الأميركية الديمقراطية، القيادات الأوروبية التي حكمت في سبعينات وثمانينات والسنوات الأولى من تسعينات القرن الماضي. فقد كانت أوروبا تنعم بقادة أكثر حكمة ورصانة وتأثيراً.. وحتى مقاماً، من تلك القيادات التي تحكم أوروبا الآن.

وقفت أوروبا (ولا تزال)، ضد المحاولات الأميركية الجديدة لمنح بعض الصلاحيات الأوروبية في صندوق النقد الدولي إلى الدول ذات الاقتصادات الناشئة، والتي استطاعت أن تحتل مكانة متعاظمة في السنوات القليلة الماضية، وتدعمت مكانتها في أعقاب الأزمة العالمية. فالمجلس التنفيذي في الصندوق ( وهو أهم أجهزة صنع القرار) بات " مُلكاً" للدول الأوروبية، من فرط تمثيلها الكبير فيه. فهي تحتل تسعة مقاعد من أصل 24 مقعداً في المجلس المذكور، ولا ترغب أيضاً باقتراح أميركي لخفض عدد المقاعد من 24 إلى 20 مقعداً في إطار صلاحيات أوسع، من شأنها أن تمنح القوى الاقتصادية الناشئة صوتاً أعلى في قرارات الصندوق، بصورة تعكس تنامي النفوذ الاقتصادي لهذه القوى. ولأن الأوروبيين يريدون احتلال مقاعدهم إلى الأبد – مثل الأنظمة الديكتاتورية – بل وزيادة نفوذهم في الصندوق، يحاولون بشتى الوسائل تخليص دولة مهمة كالمملكة العربية السعودية التي أصبحت من الأعمدة الأساسية للصندوق، من بعض صلاحياتها ومنحها إلى دول أوروبية مثل أسبانيا، كما أنهم لا يرغبون بنفوذ مؤثر للصين التي تفوقت من حيث حجم اقتصادها على اليابان، واحتلت مكانتها الثانية في قائمة الاقتصادات الكبرى.

ورغم المحاولات الأوروبية لاقتناص ما أمكن من حقوق التصويت الخاصة بالسعودية في صندوق النقد الدولي، من أجل الالتفاف على المحاولات الأميركية، إلا أن المملكة أيدت منذ البداية، المخططات الرامية لزيادة نفوذ الدول الصاعدة في الصندوق. فقد عرفت أن ذلك يدخل في إطار التحولات الضرورية. فلا يمكن أن يستمر العمل بمعايير اتفاقيات " بريتون وودز" (التي وُضعت في العام 1945 وأوجدت هذا الصندوق الذي يضم الآن 186 دولة)، في القرن الحادي والعشرين، وبعد ماذا؟ بعد أزمة لم تغير وتربك المعايير فحسب، بل وضعت معاييرها. كيف سيكون الإصلاح المزمع إصلاحاً، إذا ما نجحت الدول الأوروبية في تخليص دول ناشئة وصاعدة وفاعلة عالمية – كالسعودية – من "ممتلكاتها" التصويتية؟!. ببساطة تريد أوروبا أن يدفع الصاعدون "فاتورة" الإشراك المُستحق للصاعدين الجدد، وتقاوم كل المحاولات لوضع الأمور في نصابها الطبيعي، خصوصاً وأنها – أي أوروبا – لا تزال تعيش في أوهام ماض ولًى منذ وقت قريب لا بعيد!. ولا تزال تعتقد بأن ثقافة " بريتون وودز"، التي سببت أزمات متلاحقة للعالم أجمع، وزعتها على كل عقد من الزمن تقريباً، يمكن أن يكون لها موطئ قدم في عالم، تبدلت فيه معايير الكبير والصغير. وربما لا تزال تعتقد، بأن القرارات التي كان تَصدر بـ " التمرير" يمكن أن تنسحب على عالم اليوم!.

لم يحدث من قبل أن استعرضت الولايات المتحدة الأميركية عضلاتها بهذه الطريقة مع شركائها الأوروبيين. فقد اعتبرت – بل وأعلنت- أن ما يؤخر خطوة تاريخية كهذه، هو العجز الأوروبي في تعزيز إصلاح الصندوق. ومن الواضح أنها وضعت هذه القضية ضمن نطاق مفهومها للإصلاح الاقتصادي العالمي. فهي لا تريد لصندوق النقد الدولي أن يكون بمثابة "حصالة" أوروبية، أو شركة تابعة للقارة العجوز، أو مصرف من المصارف الأوروبية – وحتى الأميركية - المشينة. وإذا أراد الأوروبيون صندوقاً يتسيدون فيه المشهد العالمي، لينشئوا "صندوق النقد الأوروبي"، علماً بأنهم فشلوا في الوصول إلى قاسم مشترك فيما بينهم لتأسيس مثل هذا الصندوق. فالقضية باتت أكبر بكثير من ناد يسيطر عليه طرف ما، أومن منظمة تقبع تحت وصاية جهة معينة.

ما يحتاجه الاقتصاد العالمي، وهو في طور خضوعه للإصلاح الشامل، أن يَخضع صندوق النقد الدولي إلى معايير الحوكمة، تماماً مثل أي مؤسسة عالمية أو محلية. بل أن حوكمة الصندوق ينبغي أن تشكل جزءاً أصيلاً من عملية الإصلاح. فهذا الصندوق تدخل – ويتدخل – عشرات المرات من أجل إنقاذ اقتصادات قابلة للانهيار، والمخططات التي يضعها والأموال التي يمنحها، تمر عبر مجلسه التنفيذي. ومن حق الدول الصاعدة أن تكون لها كلمة مسموعة في حراكه وآفاق عمله، لا كلمة للاستهلاك الإعلامي فقط. كلمة توازي القوة المتكسبة لهذه الدول، التي – لمن نسي – لم تكن طرفاً في ارتكاب الأزمة العالمية الراهنة، التي لم تخلط الأوراق فحسب، بل أوجدت حقائق، دمرت كل "الحقائق" التي اعتاد العالم عليها طوال أكثر من ستة عقود من الزمن. أوجدت تغييراً حتمياً لا اختيارياً. فالاختيار لا مكان له، عندما يكون الجميع في قارب واحد، وعندما تكون الأمواج أعلى من هامة الكبار، وأكبر من قدرتهم على السباحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق